هل قدحت زناد الاختلاف فولّدت شرارته الأهم.. ؟
وبالتالي كانت الذاكرة، بما حفظت من مشاهدات مغايرة وجديدة، تختزن الإبداع الذي جادت به أقلامهن فيما بعد.. ؟
صيغة الاختلاف.. تحوّلت معهن إلى شرارة انطلاق نحو عوالم تحفّز المخيلة و تضمن لها سيرورة نحو الأمام.. سواء أكانت تلك الصيغة تدعم التنافر حيناً.. أو التجاذب حيناً آخر.. و سواء أكانت أقلامهن تجمّل مشاهداتهن.. تتعاطف مع الآخر.. أو كانت تنتقده وتسجل مساوئه.
البعض منهن كان ماضيها، الطفولة و المراهقة، البذرة الأولى التي شكّلت أساساً بنت عليه أهم ما كتبت.. مارغريت دوراس دائماً اقتنعت أن لا كتب عظيمة ما لم يتعامل المؤلّف مع الذات.
بصدق.. و بكامل الوعي.. يدرك غالبية الكتّاب حقيقة التعكّز على الماضي.. على الذاكرة.. كنبعٍ فوّار.. لكنه ليس ذاك التعكّز المساوي و المعادل لحالة التعكّز على الجذور.
فيما كتبن يبدو أنهن انجذبن لجذور (أصل) الآخر.. لاحقن سيرته التي تماهين حيناً معها.. و فيما كنّ يكتبن أدباً يُعتبر سيرةً لهن فإذا بهن يكتبن سيرة هذا الآخر.. المؤثر.. الذي عشن على أرضه و ترقّبن تحوّلاته.. و كما لو أنها تحوّلاتهن.
دوريس ليسينغ وعقم ثقافة البيض..
لأدبها، بعمومه، صبغة أدب السيرة.. لأن الكثير منه ينبع من ذكريات الطفولة و نشأتها الأولى في أفريقيا الجنوبية.
ولدت في الثاني و العشرين من تشرين الأول عام 1919م، لوالدين بريطانيين في كرمانشاه الإيرانية. بعد أن عاشت الأسرة خمس سنوات في طهران عادت إلى بريطانيا و منها انتقلت عام 1924م، إلى المستعمرة البريطانية روديسيا الجنوبية، زيمبابوي حالياً.. بقصد زراعة الذرة سعياً لجني المال.
في الخامسة عشرة تركت البيت و سعت إلى حياة مستقلة لتبدأ في السابعة عشرة بكتابة القصص.
فيما كتبت دوريس تعمّدت دائماً فضح ثقافة البيض وعقمها في أفريقيا الجنوبية.. و كانت أولى رواياتها (العشب يغني) صدرت عام 1950م، تدور أحداثها في أفريقيا الجنوبية.
عالجت الروائية في الكثير من نتاجاتها قضايا القارة السمراء التي نشأت فيها.. قضايا السود.. فكانت أفريقيا الجنوبية الخلفية المكانية التي اختارت في العديد من كتبها مثل قصص (كان هذا بلد الزعيم العجوز) عام1951م، ورواية (مارثا كويست) عام 1952م.
عام 1956م، عادت ليسينغ إلى روديسيا الجنوبية بعد سبع سنوات من الغياب.. استعادت المكان (أفريقيا الجنوبية) الذي كان دائماً ماثلاً أمامها بطلاً أول في كتابات أخرى.. مثل رواية (محاط بالأرض) عام 1965م.
بعمق، التزمت دوريس في هذه الأعمال كما غيرها، نقل حقيقة الصدام بين الثقافات و التفرقة العرقية.. جاهرت برفضها و نقدها لسياسة المستعمرين البيض و طردهم للأفارقة السود من أراضيهم معرّيةً ضعف ثقافة هؤلاء البيض في أرض ليست أرضهم.
إميلي نوتومب في ذهول و رهبة..
و لعلّها في حالة صدمة.. وصفتها وشرحت تفاصيلها في عملها (ذهول و رهبة) الذي بلغت معه قمة نجاحها وحازت عنه الجائزة الكبرى من الأكاديمية الفرنسية عام 1999م، لتصبح الكاتبة الأكثر مبيعاً.. بعد مدة زمنية قصيرة نسبياً من صدور أولى رواياتها (نظافة قاتل) عام 1992م.
ونوتومب بلجيكية الأصل، يابانية المولد، ولدت عام 1967م، في كوبي اليابانية.. والدها سفير سابق في اليابان.. عاشت حياة التنقل في كل من الصين و أمريكا و اليابان. تختزن حياة الترحال و تذكرها في كتابها (بيوغرافيا الجوع).. فيه تصطفي ذكرياتها التي علقت بذهنها في كل مدينة حلّت بها.
في (ذهول و رهبة) تحكي نوتومب عن تجربتها في شركة يابانية ضخمة.. فيها العمل كل شيء.. هو القيمة الأهم و لا قيمة دونه.. فالشركة معادل حقيقي للحياة.. إنها الحياة.
يوميموتو.. باختصار.. هي المكان الذي يتصارع فيه الموظفون وصولاً إلى مصالحهم ما عداها هي التي لم تزل تحتفظ بشيء من إنسانيتها و عواطفها في هذا المكان الذي تيبّست فيه العواطف.
تتحطّم آمال الشابة التي أنهت دراستها الجامعية و التحقت بهذه الشركة.. تتكسر مرتبتها الوظيفية من مترجمة إلى مشرفة على تنظيف المراحيض.
كل ذلك تصوّره الكاتبة بغاية انكشاف الرواية على عوالم الصرامة اللامعقولة و غير الرحيمة التي تتّبع وسيلة عمل و طريقة إدارة.
بين النظرة الإيجابية المتعاطفة التي نظرت بها ليسينغ للقارة السمراء.. و بين النظرة التي حملتها نوتومب عن شركة يوميموتو اليابانية التي لن نصفها بالسلبية على الرغم من الاستنكار (المبطن) الذي تعبّر عنه البطلة الناطقة بلسان حالها الروائية في رواية (ذهول و رهبة).. ثمة مسافة تشكّل فارقاً ما بين نوعين من التلقي.. بتعبير أدق.. هو ليس (تلقياً) بمقدار ما يبدو موقفاً.
مارغريت دوراس وحيادية الذات العاشقة..
معها يختلف الأمر عن الأخريين.. لأنها دائماً ما نظرت إلى كل ما عاشته في البلد التي نشأت بها الهند الصينية (فيتنام) نظرة ذاتية.. وثّقت ذلك بكتاب (العاشق) الذي يحكي قصة حياتها في فيتنام خلال الاحتلال الفرنسي لهذه البلاد ثلاثينيات القرن الماضي منذ مولدها إلى أن عادت إلى باريس.
ولدت دوراس في جيا دنه في فيتنام، اليوم الرابع من نيسان عام 1914، قبل أسابيع من بدء الحرب العالمية الأولى.
من خلال كتابها الأبرز (العاشق) الصادر عام 1984م، تركّز على قصة عشق ذاتية عاشتها هناك و كان العاشق من السكان المحليين.. لن تخوض في جوانب سياسية لتلك الفترة و لن تسلك سبيل التشعبات المضطربة.. كل ما تحاول استذكاره يدور حول أحلام الصبا التي قاسمها إياها ذاك الشاب العاشق.
حالة الذاتية تعود الكاتبة إليها في رواية (حاجز على الباسفيك) التي تناولت أيضاً طفولتها في الفيتنام.
أما في (هيروشيما حبيبتي) نتعرّف على نطاق واسع من بيئة تلك البلاد حيث تسرد دوراس قصة حب ليست أكثر من خلفية تنمو على آثار الدمار الذي لحق بهذه المدينة اليابانية.
بعموم ما أنجزت من أدب.. دائماً انشغلت مارغريت بموضوعتها الذاتية (السيرة) ولم يكن مكان النشأة بالنسبة إليها أكثر من مكان تقع فيه الأحداث.. دون ان يخلو من ممارسة دور المحفّز.. و الدافع المحرّض لعيش التجربة و الانغماس فيها.
و هو ما يجعلنا نوصّف تلقيها لبيئة ذاك المكان بطريقة (محايدة).. لم تتسم بالنفور أو الانجذاب.. لا هي سلبية ولا هي إيجابية.