حول هذه التجربة، تحدث إلى مجلة «لوبوان»، التي أجرت معه حديثاً طويلاً، هنا بعض أبرز ما جاء فيه.
- هل هي اللحظة المناسبة، بالنسبة إلى الرحالة الذي أنت عليه، أن يجد نقطة ارتكاز، في منطقة بروتاني، عند آل لو كليزيو؟
-- أعتقد، آنها نقطة ارتكاز، أحب ذلك، أنا الذي لايملك نقاط مرور... في الواقع عدت ووجدت جذوري البروتونية عبر زوجتي، المتحمسة جداً لمنطقة بروتاني. لقد اكتشفتها، حين تزوّجنا، منذ فترة طويلة، وكان انطباعها الأول عنها كارثياً. كان الطقس ماطراً يومها، وكنا في غرفة فندق صغيرة، في قرية للصيادين، وكانت تتأمل برك المياه التي تتجمع من جراء الأمطار، فقالت لي: «كيف يمكن لنا أن نسكن في منطقة مماثلة»؟ في نهاية الأمر، شعرت بالدهشة من طريقة العيش، المتفردة جداً عند البروتونيين. الآن، أصبحنا نمضي غالبية وقتنا هنا، حين نكون في فرنسا.
- هل يلعب «هذا الإطار» أي دور فيما تكتبه؟
-- بالتأكيد يلعب الإطار دوراً فيما أكتبه، لقد عدت ووجدت هنا الموضوعات التي اعتقدت أني نسيتها، وهي موضوعات، في غالبيتها، أدبية. أذكر في هذا الصدد، رواية صغيرة دفعت الجميع إلى البكاء في فرنسا، تقريباً، في بداية القرن العشرين، وهي رواية «صخرة النوارس» لجول ساندو، التي تتحدث عن أطفال تائهين على شاطئ. حين غطى الضباب كل شيء، لم يستطيعوا أن يحددوا لا أين البحر ولا أين اليابسة. وحين ارتفعت الأمواج اختبؤوا خلف صخرة، وقد أسلموا أمر القيادة لفتاة شابة، كانت أكبر سناً في هذه المجموعة، وقد نجحت في إنقاذهم آخر الأمر. موضوعة أن نتوه في البحر هي من الموضوعات التي تراودني دوماً حين أكون في منطقة بروتاني، حتى وإن كنت لا أملك مركباً ولا أبحر تقريباً. إذاً المنطقة حاضرة فيما أكتبه، على الرغم من أنني لا أنوي مطلقاً إعادة كتابة «صخرة النوارس» ولا بأي شكل من الأشكال...
- دائماً هناك «بطلة نسائية» في كتبك... لديك إعجاب كبير بالنساء، وكتابك الأخير لا يشذّ عن ذلك. بما أنت مدين للنساء؟
-- أدين بالكثير لجدتي، التي كانت امرأة مدهشة. تنحدر من شرق فرنسا، كانت غنية جداً، بيد أن جدي، من جزيرة موريس، فقد كل شيء، ولم يكن لديه أي حس بالتجارة. كانت جدتي تحيا في فترة لم يكن هناك فيها أي حق في أن تدير أموالها، لذلك وجدت نفسها معدمة، وخلال فترة الحرب، وفي عمر متقدم، لكن وبفضلها، بفضل نباهتها، استطعنا العيش كلنا إلى نهاية الحرب في جنوب فرنسا. ولكي تجنبنا كل ذلك، كانت تخفف أعباء الجو عبر روايتها للأقاصيص. كانت «حكواتية». أي روائية. أدين لها بالكثير بميلي إلى الأدب الذي يشكل أداة طمأنينة وضمان في الأزمنة الصعبة، إذ ثمة سعادة في استعمال اللغة كي نلهو عن الواقع، كي نناضل ضده.
- كنت ضيف اللوفر؛ ماذا يمثل لك مفهوم المتحف، وبخاصة مفهوم اللوفر؟
-- لفترة طويلة من حياتي، كنت معادياً لمفهوم المتاحف إلى أن زرت، متحفاً، في كوريا، وهو متحف أثر بي كثيراً: كان يسمى متحف الفراغ. متحف مليء بالفضاءات الفارغة وبالرسوم البوذية التي تمثل الفراغ. ما إن ندخل إلى هذا المبنى المدهش حتى نفهم رأساً ما الذي يعطي قيمة لهذا المتحف وما يمكن له أن يكون القيمة الكونية للمتاحف: مكان نفكر فيه، أي ربما ما يعادل الصومعة في الأزمنة الغابرة. هدف المتحف يمكن في أن لا يظهر لنا الأشياء، بل أن يجعلنا نرى من خلالها، وفي أن يجعلنا نقيس أنفسنا بالأشياء المعروضة. متحف اللوفر، هو أيضاً وأظن ذلك متحف فراغ، أو يمكن له أن يكون كذلك. أشعر إن توقف عدد كبير من الناس أمام الجوكندا، فلأن، هذه الصورة، التي يتواجهون معها، لا تعطيهم أي ضمانة، أي قوة للوجود، بل تجعلهم في حالة من التساؤل.
- ولكنك جلبت إلى متحف اللوفر أشياء من إفريقيا، هاييتي، المكسيك...
-- دعوت الناس أن يجلبوا عناصر مادية لا معنى لها بحد ذاتها لكنها تترجم مجتمعاً ما، أو حقبة ما...
- من أين لك هذه النظرة المتخلية عن كل تراتبية بين الحضارات والثقافات والكائنات البشرية؟
-- ربما تتأتى من عائلتيّ، عائلتي الفيزيولوجية وعائلتي الروحية. عاش أهلي بعمق هذه الأفكار. كان والدي طبيباً في إفريقيا، اختار حياة صعبة إلى حد ما بعيداً عن بلاده، جزيرة موريس، وعن فرنسا وانكلترا حيث تابع دروسه. أما والدتي، التي ولدت في باريس لأبوين غنيين من جزيرة موريس، فقد قررت أن تتزوّج نسيبها وأن تعيش في إفريقيا. كانا شخصين متفردين، أعتقد ذلك، وكانا يتمتعان بحشرية لمعرفة العالم ولما يمكن أن يقدّم لهما العالم. حين عاد والدي من إفريقيا، كنت في العاشرة من عمري تقريباً، وقد زين شقته في نيس بأشياء افريقية في الغالب أقنعة وخرائط من موريس. كنت أحيا في نوع من متحف إفريقي، وحين كنت أخرج من إطار الثانوية النابليوني، الذي كان يعلمني التيارات الفكرية الفرنسية الكبرى، كنت أدخل في عالم غير مألوف بالمرة. لذلك نشأت في عالم مبعثر. تلقيت تأثيرات كثيرة أيضاً من عائلتي الروحية، لأن زوجتي مغربية، من الصحراء الغربية، تلقت من والديها بالتبني تربية فرنسية ذات مستوى أعلى من تربيتي.
- هل تعتقد بأن هذه الرؤية يمكن لنا أن نتقاسمها بشكل أكبر؟
-- أتمنى ذلك. قد يبدو الأمر ساذجاً من قبلي، لكن أتمنى أن يكون الجمهور ساذجاً أيضاً.
- ماذا تقصد بكلمة ساذج؟
-- شيء تلقائي مخفي بين البواطن، إمكانية أن نتماثل مع فن غريب عنا بشكل كامل، عبر كماله، عبر مجموعة العمل الذي يمثله، عبر التاريخ الذي يتضمنه ولكن أيضاً عبر ما نحس به بأنفسنا، أي نوع آخر من التخاطب يمر عبر نظام الغريزة.
- هل ما زلت تحج؟
-- إنه تعبير، لكني ما زلت أهتم دائماً بالأماكن التي حدث فيها شيء ما غيّر مجرى التاريخ. الأمور تشبه الكتب، صامتة، وأتقبله كما لو أنه بمثابة تطلع. في جزيرة موريس، أتردد إلى رمال الشاطئ السوداء بشكل مستمر، الشاطئ الذي شهد المعاهدة، والذي أصبح معلماً سياحياً، مع العلم أنه اتخذ بعداً مأساوياً. كما في «المورن» المكان الذي رموا فيه العبيد.