لا يجدي في الإجابة على هذا التساؤل الكبير الكم المترهل والمتطاول لحجم النشر العربي إعلاميا وثقافيا, وللوهلة الأولى نرى أن هذا النشر السياسي يدخل في أحد مسرابين, إما أنه وصف عام يلصق الأجزاء ببعضها ويضيف مشهدا لآخر ثم تأتي عملية اللعبة المعروفة لدى الأطفال بالبحث عن تجميع وحدات المشهد ولضم الأجزاء المتبعثرة في محاولة إلى استيضاح الصورة العامة أو أن هذا النشر الإعلامي العربي يدخل في مسراب الحالة الذاتية والذي يتكون من فقرات أساسها المنطلق الذاتي المحدود, واستبعاد روح المسؤولية عن الموقع, وإطلاق شعارات عامة يكون المعني بها الآخر باستمرار.
الآخر الغربي بالقياس إلى الذاتي العربي والآخر العربي القطري بالقياس إلى الذاتي المحلي, وفي المحصلة نحن أمام كتلة كبيرة الحجم من النشر متناثرة الأبعاد يلغي بعضها البعض الآخر وتستمد منه مناهج أولويات كل حسب رؤيته ومصلحته والوظيفة الموكلة اليه في نهاية الأمر, أي إن أولوية التنمية في بلد هي آخر بند في البلد الآخر والبند الموضوع على الهامش القومي في بلد هو العنوان الأول في موقع آخر وبالتالي تحدث عملية جبّ وإلغاء ما يثبت هنا يلغى هناك وما يقرر في موقع يجهض في مواقع أخرى, وبالتالي صرنا خصوما لخيارين حيويين, خصوماً لخيار الانطلاق من الحالة العربية بكليتها وشموليتها وخصوما للمنهج الذي يمكن أن يبنى بطريقة المنظومة الموحدة وليس بالاعتماد على نظام الصرخة عند الألم أو الانقاذ عند لحظة الغرق, أو المخصص اليومي لحاجات كل موقف سياسي في الداخل العربي أي هناك نظام ( الخسكار) فكل يوم يحمل معه حاجته وغدا يخلق الله ما لا تعلمون, ولعل العنوان الأكثر تجسيدا لمثل هذه الحال وفي نطاق التعاطي المباشر مع الأحداث هو أن العرب يشتغلون كأفراد وإن كان مفهوم الفردية نظاما سياسيا أو حزبا أو منظمة اجتماعية أو حتى مؤسسة إعلامية وثقافية, في حين تقوم ضوابط العمل في الطرف الآخر على وحدة المنظور زمانا ومكانا وتكاملاً المجهودات سياسة واقتصادا وإعلاما ووضوح الطريق ما بين المخطط المرسوم والتطبيقات العملية القائمة فيه وعليه,إننا نحرم أنفسنا من أقوى مورد سياسي وعملي في الوطن العربي ويعطي الآخرون لأنفسهم هذا المدى الكامل في بناء المنظور الموحد ولا يلغي هذه الحقيقة أن السياسيين العرب ولربما المسؤولين عن الأنشطة الاجتماعية والمهنية أن يقدموا شكلا ظاهريا يقولون من خلاله إننا موحدون, إن هذا الحال يشبه فريق كرة قدم موحد اللباس والتسميات من الظاهر لكن كل لاعب فيه هو موقع بذاته ينجز الانتصار على حساب الآخرين ولا يعترف بخاصية العمل الجماعي للوصول إلى نتيجة ما, وحتى في هذه الحالة فإننا ننسب الفوز للشخص وننسف من خلاله مفهوم الفريق الموحد, وحينما ننسب الفاعليات العربية إلى مصادرها وإلى درجة الخطر في الواقع نفسه نكتشف أن السياسات العربية تنطلق من الشعارات في حين تنطلق المواقف عند الآخرين من السياسات الموحدة والمبادرات المتكاملة ومن خاصية التوزع على الأدوار واحتساب مقومات كل مرحلة وضبط الناتج المرحلي على الخط العام لهذه السياسات وهكذا نستطيع أن نؤشر على ملاحظات ثلاث بصورة سريعة ومباشرة.
1- المواقف السياسية العربية هي صدى وليست أفقا أو مدى تمتلك إمكانية الإحساس بالألم ولكنها تفقد المحرض والدافع مع حالة التخدير التدريجي في مواقع الألم في الجسد العربي.
2-إن هذه السياسات وما يتصل بها هي مجرد أداء للواجب لذا تكثر التصريحات والبيانات المشتركة والإعلانات السياسية وبعد ذلك يمضي كل في طريقه منتظرا طعنة أخرى للتحضير لوجبة مناسبة من العويل والبكاء والرثاء.
3-هناك اعتماد بل تعمد مباشر لربط المواقف السياسية بأسبابها وضروراتها من جهة وبامتداداتها ورفدها للمجرى القومي العام, الأمر الذي يهيئ لسهولة الاختراق من الخارج وسادية الانقلاب من الداخل.
لندقق الآن في المحور الجوهري الذي يحرك السلوك الأميركي والغربي الراهن, هو يقوم على قاعدة واحدة موحدة تنص صراحة وبصورة قاطعة على أن يعترف العرب ( بإسرائيل) بصورة كاملة وعلنية وأن ينضووا في تفاصيل التيار العالمي الذي تقوده المراكز الاستعمارية في الغرب وتنتجه المواقع الصهيونية على امتداد العالم حيث يكون أمن ( إسرائيل) هو الحالة الجنينية من جهة والتطبيقية المتطورة والنامية والمعمول بموجبها من جهة أخرى, هذا هو مطلبهم الآن من حركة حماس ولا يقيمون وزناً لاتفاق أو لخيار ديمقراطي أو لخطاب معتدل يشتمل على مبدأ السلام كخيار استراتيجي, لا علاقة لهم بالسلام ولا بالظرف الموضوعي والتاريخي ولا يقيمون وزنا للمعايير المشروعية والحق والعدل ولا يتأثرون بأية درجة بمشاهد الموت والتدمير كل الذي يبحثون عنه هو الاعتراف السياسي والعملي بالكيان الإسرائيلي هذا هو المدخل لفهم ما يجري في فلسطين إن في الداخل الفلسطيني أو في المواقع العربية الأخرى وهذا هو المبدأ الأول لفهم الحقائق في العراق الشقيق الجريح وهذه هي الرسالة الأولى لضبط أنماط التفكير والوقائع لما يجري في لبنان باستمرار الاعتراف بإسرائيل وانخراط العرب في إنجاز هدف أمن ورفاهية الكيان الإسرائيلي نفسه, وإذا ما طرحت الحالة الراهنة فهناك اعتراف عربي ما بإسرائيل وتمثيل دبلوماسي وهناك علاقات اقتصادية وثقافية وهناك تحضير مكتمل في الجانب العربي لردع أية نزعة في الخروج عن هذه القاعدة, مع ذلك كله نرى أن المطلوب من العرب هو أوسع وأعمق بكثير مما حدث ثم إن المسألة لديهم لا تتصل بمجرد الإنجذاب الرسمي العربي أو النخبوي العربي لحالة الاعتراف والتعاطف مع إسرائيل هناك بحث معمق ومستدام لإطلاق هذا المعنى في عمق الإنسان العادي أولا وفي صلب القرار السياسي العربي ثانيا وفي الضمانات الراسخة على امتداد التاريخ العربي بجزئيه المستقبلي والماضي معا.
ويعجب الإنسان كيف يمكن إسقاط هذه الرغبة الاستعمارية والصهيونية على الجزء الماضي من التاريخ العربي, هنا تطل الأجوبة الأميركية واليهودية برأسها, عليكم أيها العرب أن تخلصوا تاريخكم من الشوائب وتعيدوا النظر بنصوصه ووثائقه حتى لو كان الأمر يتعلق بالقرآن الكريم أو بالأناجيل الأربعة, إنها فكرة جهنمية استولدتها الحالة التاريخية للحقد المزمن والمدمن على العرب والإسلام ودفعتها إلى الأمام وحدة التكوين الهمجي لدى القتلى والتجار في الحياة الغربية والحياة اليهودية معا,لكن العامل الأهم في منطق الصلف والوقاحة هذا إنما جاء من خلال هذا الضعف العربي بل هذا التناقض العربي الذي نقل كل الامكانيات والطاقة إلى نظام التجزئة وإلى المعارك البينية وإلى حالة تجزئة الجسد ووضع الأشلاء تحت تصرف المشروع الغربي الصهيوني بعامة ولننظر الآن ما الذي يجري? لأ أحد يدعي بأن هناك مسألة قومية راهنة أو أن هناك هما عربياً واحداً وحينما يحدث الاستثناء على هذه القاعدة المشؤومة يغتالون التجربة كما حدث في حرب تشرين من العام 1973 حيث بدأت صراع إرادة ووسائط حرب وانتهت باتفاقات ومعاهدات وصلح مع إسرائيل وغزل رسمي لا يتورع عن التمادي في إبادة الحقوق وهدر الكرامة بصورة مجانية أحياناً.
ثم نتابع المشهد الواحد بواقعته الهامة عبر حرب تموز وآب من العام 2006 وهذا الصمود الذي أدى إلى تغيير كارثي في المعادلات المهيمنة وها نحن نتابع منطق العزل والتدمير لكل الآثار السياسية واللوجستية والعسكرية التي انتجتها حالة الصمود في جنوب لبنان.
إن الإشكالية العظمى تختزلها قصة مقومات الواقع العربي قياسا إلى فاعلياته ومغذيات موقفه, نحن لسنا أمة طارئة, حتى بموجب التصدي للهجمات الاستعمارية بما فيها النمط الاستيطاني والغزو الشمولي, نحن لسنا طارئين في ذلك بل إن تاريخنا هو سيالة لا تنتهي من مقاومة موجة بعد موجة, ومن نضال عاثر مصطخب لنضال عاثر مصطخب على حد قول الشاعر العربي الكبير عمر أبي ريشة, هم الطارئون على خط التاريخ وخطاه, ولعل حالة الترهل العربي اقنعتهم في هذه اللحظة أن الأمة فقدت توازنها وهي في الطريق لتفقد جوهرها لكن الأمر سوف يحتسب عبر منطق أن الموجة الراهنة هي مجرد إضافة معاصرة لموجات الروم والفرس والإغريق والصليبيين والتتار ليس أكثر, ثم إن الوطن العربي لا يشكو من الشح الاقتصادي كما هو الحال في الشح السياسي, هناك تفريط في الثروة,هناك سوء توزيع وهناك بالدرجة الأولى انقطاع في التوظيف حيث الأصل أن يكون الإنسان والاقتصاد في خدمة القضايا الكبرى والضاغطة, من جهة أخرى نعلم تماما أن الكم البشري العربي موضوع تحت خيار التفرقة ومنهجية الاقتتال في هذه المرحلة وهذا ما يظهر العرب على أنهم مجموعات جائعة وكتل سياسية مهزومة, ونعلم أن الغرب الاستعماري ومعه الدوائر الصهيونية يتبجحون بهذا الأمر ويعلنون بأن إنتاجهم قد وصل إلى حدود المليار ونصف المليار طن وبأن نصف مليار من هذا الانتاج الغذائي يقدم كطعام للخنازير والكمية كافية لأطعام أكثر من مليار ونصف مليار من البشر, وبحسبة بسيطة أولية نجد أن المشهد العربي الراهن بكل مقوماته وقواه وصوره وصيغه لا ينتمي لا للحق التاريخي للأمة ولا لحجم القوة البشرية والاقتصادية لها, إن الوطن العربي يشكل عشرة بالمئة من مساحة الأرض أي ما يعادل 1450 مليون هكتار ويشكل العرب خمسة بالمئة من مجموع سكان العالم لكن المؤشرات السياسية والاقتصادية تأتي مفزعة رهيبة وهكذا فنحن أغنى بقعة في الأرض وأفقر شعب في العالم, وهكذا فنحن أقوى نموذج للحق المغتصب واردأ استجابة في الناتج الاجمالي وحتى في منسوب المؤشر الاقتصادي فإن التاتج الاجمالي لكل الدول العربية لا يصل إلى حدود الألف مليار دولار سنويا أي أقل من رقم الانتاج الإجمالي لدولة أوروبية عادية مثل إيطاليا أو إسبانبا, لقد سمحت لنفسي أن أُدخل هذا المؤشر لكي أعطي الاعتبار في المقام الأول لنظام المنظومة وليس للعمل العفوي أو الذاتي لأن ذلك سوف يحرمنا كعرب من الاعتراف بالواقع ومن التعرف إلى مصادر القوة الذاتية فيصير الإنجاز الجزئي انتصارا في حين هو مجرد صرخة أو تعبير غريزي وليس ذا شأن إذا ما حُمّل على المنسوب العام لواقع الأمة من حيث هزيمتها وضعفها وجرأة القوى المعادية في اختراقها والتلاعب بعناصر وجودها ومقادير مصيرها, والغريب في الأمر أن الطرف الآخر هو الذي ينطلق من وحدة الموقف وضرورات تجميع الطاقة وتكاملها ثم صبها في نطاق مصلحة الكيان الإسرائيلي سواء أكان هناك وضع ساخن متفجر أو لم يكن, إن الحالة لديهم مستقرة ومستمرة بل إن الضرورة في زمن الهدوء تكون أكبر للمضي في هذا النسق ولعل البعض من المنظرين السياسيين الأميركان قد اعترف بذلك على لسان بول فندلي بقوله إن رئيس حكومة إسرائيل لديه من النفوذ في أميركا ما يفوق نفوذه في إسرائيل نفسها.
الحكاية إذا بأصلها ليست رجما بالغيب وليست تقديرا ذاتيا هي الصراع الذي يجب ألا يغيب عن بالنا ما بين الوهم وما ينتجه من وهن والحقيقة وما تطلقه من قوة.