لاشك أن موروث الكتب المؤلفة حول (علوم الجمال) و(الفنون السبعة) في سيرورتها عبر رحلة الحضارات الإنسانية قديمها وحديثها منذ فجر التدوين حتى الأزمنة المعاصرة، يشكل كنزاً فنياً ومعرفياً
لا تنفد قيمته العلمية وجدواه التنويرية وتستمر تغذيته الراجعة بمعطياته ومنجزاته الحافلة بمبدعات الشعوب متواصلة الأثر والتأثير قادرة على الديمومة والبقاء لتنهل أجيال البشرية المتوالية من معينه الثر على مدى الأحقاب والآماد رحيق الخالق وكوثر المخلوق وتنتعش بالفيوضات الربانية والجلوات الاستشرافية. ومن هذا المنطلق وسواه كثرت الدراسات الدائرة حول مفهوم (الجماليات) في مختلف أنواع الإبداع بجانبيه الأدبي واللغوي المعنوي/ واليدوي المادي والحسي، وتبدت تجلياتها الثقافية ومنعكساتها البديعية على الروح والنفس والجسم والكينونة في حياة الفرد البشري وتطور وعيه الإدراكي في تلقيه للجمال والتعامل معه ضمن محيطه الاجتماعي. وقد كان للعرب- على مر العصور- شأنهم شأن بقية الأمم الحية حصتهم الوافرة من هذا الموروث الجمالي الضخم على شتى الصعد والميادين والأصناف والأشكال، ماضياً وحاضراً، وخاصة فيما يتعلق بتربية طاقة اللذة السمعية والبصرية لدى الذواقة من الناس المعنيين بهذا الأمر عبر نوافذ حواسهم الجسدية المشرعة على العالم الخارجي وما يعمر فيه من كائنات وكواكب وغابات وبحار وبقية منظومة الإعجاز الإلهي في إيجاد الوجود من العدم على أرقى صورة من الكمال والجمال، وهكذا قيض لهؤلاء العرب المهتمين بهذا الشأن وعلى التحديد في عصور ازدهار الحضارة العباسية والأندلسية وفي عصر حداثتهم الحالي تدريب قدراتهم المتخلقة وتمرينها على استيعاب ماهية الجماليات ومعاينة قيمتها بالروائز والمعايير وخاصة في فن الشعر ديوان العرب الأول فقدموا للمكتبة العربية أبحاثا وكتباً في هذا الميدان تستحق النظر والتأمل والعناية والتقدير بما تملكه من مقومات المنهج العلمي واللجوء إلى العقل والمنطق والثقافة والذوق الفني المدرب بالتجربة في إطلاق أحكام القيمة على الأثر المدروس والقطعة المختبرة.
-2-
في السياق المشار إليه سابقاً يوضع كتاب (جماليات الشعرية) الصادر عام 2008 عن اتحاد الكتاب العرب ب /384/ صفحة من القطع الكبير للدكتور الناقد خليل الموسى في الصميم من الأهمية والصدارة، فقد لمست فيه جهداً علمياً موسوعياً متسماً بالإحاطة والشمول والدقة والأناة، يسعى فيه مؤلفة بإمكانياته الثقافية والاطلاعية الواضحة المعالم وإتقانه الفرنسية وقراءة أشهر أعمال أدبائها للتوصل المنهجي إلى استبيان مفاهيم ومصطلحات جماليات الشعرية في الآداب العالمية القديمة والحديثة في الجانب النظري من دراسته وآليات تجسيدها تطبيقياً في النصوص الشعرية المدروسة بين دفتي كتابه بمقدرة تحليلية معمقة تنم عن مقدرة فائقة في تذوق الفن السامي والتقاط لحظة الإبداع حين تجليها متوهجة في القصيدة فضلاً عن أنه يعد إضافة معمارية لمكتبة عربية غزيرة التأليف تولت البحث في هذا الباب، لكنه في تقديري ورؤيتي قد يمتاز عنها امتيازاً مخصوصاً بأن كاتبه ناقد وشاعر معاً معروف وذائع الشهرة في دنيا الأدب على صعيد محلي وعربي، أثبت أنه مؤهل- على قدر عالٍ من الموضوعية والتذوق- لارتياد الصعاب الأدبية بخبراته النقدية المتراكمة في ميدان التدريس الجامعي لمادة الشعر ونقده ومعاناته الروحية والوجدانية باستيلاد دواوينه الشعرية من رحم معاناته أكثر من سواه للخوض في تقصي موضوعه المعالج هذا وسبر عوالمه رؤيوياً وعملياً وإنجاز أثر أدبي له ماهيته وقيمته وأهميته تقترن في تدوينه الفائدة بالمتعة معتمداً على منهج نقدي أكاديمي عرف به صاحبه وشهر باتباعه والأخذ بمسالكه في إصداراته النقدية العديدة وإسهامه التأليفي المرجعي الموثق منذ مطالع ثمانينات القرن العشرين بدراسة مختلف الفنون الأدبية المعاصرة بأدوات مشحوذة تستلهم الحداثة نهجاً وتركن لأدواتها وتستفيد في الوقت نفسه من عراقة التراث العربي بما يكتنز من قيم بديعية وآفاق حضارية قادرة على الديمومة والبقاء والتواصل مع الراهن والتعبير عن هويتها المعرفية وإثبات حقها في الحياة ومتابعة تعميق شغله النقدي على منوال هذه الدراسات النقدية ذات الطابع الاختصاصي المفيدة للقراء عامة ولطلاب كليات الآداب في القطر وعلى الأخص طلاب الدراسات العليا.
-3-
في مدخل كتابه يذكر مؤلفه الدكتور خليل الموسى أن مصطلح الشعرية (poetique) من أكثر المصطلحات اختلافاً وتغيراً فيما بين الأمم وهو مصطلح كثر الصراع حوله بين القديم والجديد وخاصة عند العرب ومن النقاد المعاصرين من يرى أن الشعرية كامنة في التوتر الذي تخلقه في القارئ أو في لغة القصيدة أو إيقاعها أو صورها أو بنيتها.. الخ.. وينتهي إلى القول: إن الشعرية مصطلح مراوغ متبدل وغير مستقر ويصعب الإمساك به إلا من خلال فترة محددة أو عند مدرسه معينة أو ناقد ما، لذلك كان عيار الشعرية مختلفاً مكانا وزماناً، فهو عند أرسطو المحاكاة وعند الرومانسيين الشكل العضوي وهو الانزياح عند جان كوهين والتماثل عند ياكبسون والتناص عند كريستينيا وعند بارت النص المفتوح وهكذا..
أما مصطلح الجمالية (esthetipue) فهو يتصل بعلم الجمال وبما هو فني ويرى الدكتور موسى أنه إذا كان معظم فلاسفة علم الجمال يذهبون إلى أن الفن يمتع بما فيه من جماليات بعيداً عن الأفكار والصدق والأيديولوجيات فإن آخرين يذهبون إلى أن الفصل بين الشكل المضمون أمر متعذر ولذلك لابد من تسلل الأخلاق والتعليم إلى ما هو جمالي ومن هنا وجد هذا المصطلح نفسه رهن جذب وتنافر بين أصحاب هذا الرأي وذاك ولم يجد له مستقراً حتى اليوم. وظل مفهوم الناقد الجمالي أقرب إلى الناقد الفني المحض منه إلى الناقد الملتزم.
تم تابع المؤلف عمله فتحدث في الفصل الأول من كتابه عن «الجماليات» في العصور القديمة مستمدا نظرية المحاكاة عند جمهورية أفلاطون وفن الشعر لأرسطو وفي الفصل الثاني تطرق إلى الجماليات في النقد العربي القديم وأفصح عن بروز اتجاهين رئيسين في تعرضه للشعر خلال هذه المرحلة أولهما يظاهر بنية البيت المفرد في القصيدة وثانيهما يعاضد الجمالية المتوسمة بصفتها كلاً موحداً في النص الشعري وأفرد الثالث لسرد الجماليات في رومانسية الشكل العضوي وأشار إلى سلطة المؤلف في عمله الفني وأشاد بالدور الريادي ل كولردج في صياغة نظرية الشعرية الرومانسية وتنظيره لمقوماتها، وكانت له وقفة في «الرابع» مع «جمالية القبح في الشعرية» حيث ابتعد الجمالي عن سلطة المقدس واخترقها إلى أن وصل إلى الظاهرة البودليرية والشعر السيريالي العالمي ودار «الخامس» حول «الجماليات في البنيوية وظهور سلطة النص» فأشار بقيمة «دو سوسور» في اكتشافاته اللغوية لفتوحات علم اللسان أما الفصل الأخير فكان مخصصاً لعرض نظريات عن التناص والتفكيكية والتأويلية ومقولة موت المؤلف وصولاً إلى سلطة القارئ، وهنا لابد من البيان أن الأستاذ الناقد موسى قد اعتمد في جميع مدروساته السابقة المنهج التاريخي مذهباً لتتبع «جماليات الشعرية» لدى الغرب والعرب وتحولاتها.
-4-
في النهاية يكفي كتاب الدكتور خليل قيمة أنه نهض بأعباء دراسة «جماليات الشعرية» دراسة شاملة جادة في النظرية وجمالياتها في الأدب العالمي يغبط على تحقيبها وأعتقد أنه لابد أن يستفيد من معطياتها المختصون والقراء بقدر أو بآخر وفي هذا خير وانتفاع ولذة وإمتاع.
m.alskaf@msn.com