تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


عجاج .. و ما حدا ودع حدا..

آراء
الأثنين 21/4/2008
نواف أبو الهيجاء

في الصباح الباكر من ذلك اليوم النيساني , و حين ايقن الطفل - ابن الخامسة - ان أباه لا بد ذاهب إلى - المدينة - تشبث به , تمسك بسرواله قبل ان يلبس ( القنباز ) المخطط و اللماع . و تنهنه و توحوح و ترجى.

فلان قلب الاب و هتف بالزوجة ( لبسيه يا حرمة ) . شقيقته - ابنة الثالثة - حاولت بدورها ان تحذو حذو اخيها لكن امها نهرتها ( عيب انت بنت ! ) . البسته امه ملابس الخروج المخبأة للمناسبات - الطاقية المزركشة - و الثوب الذي يشبه الجلابية , و الحذاء الذي ابتاعه له عمه من القدس قبل شهرين حين زارها و قدس هناك . تحدرا - الاب و ابنه الصغير - من سفح الكرمل قاصدين الشارع العام انتظاراً لحافلة يتيمة كانت تأتي من ( اجزم ) الى حيفا و تمر في طريقها بعدد من قرى الكرمل - قضاء حيفا . ثم جاءت يجأر صوت محركها مجفلاً الطيور لافتاً انتباه المنتظرين الذين يسارعون الى ركوبها .‏

و صلا الى المدينة . قال الطفل : اريد ان ارى ( الفاينري - أي مصفاة حيفا ) عن قرب .‏

اشار أبوه اليها . قريبة من ( السوق ) كانت - ليست بعيدة عن ساحة الحناطير و لا عن المحاكم - و لا عن ( الهدار ) . كانت المدينة هادئة تماما . فاتجه الاثنان الى ( الحسبة - السوق ) فالاب كان محباً لسمك ( المشط ) والطفل كان لعابه يسيل و هو يرمق ( الموز ) . عاجله ابوه : لا تخف سأشتري الموز .. كلنا نحبه .‏

السلة الطولانية المصنوعة من جدائل سعف النخيل و القصب الملون احتوت رطلين من السمك و مثلهما من الموز . و من ثم تحرك الاب و ابنه في اتجاه (ساحة الحناطير ) ليحدث ما لم يخطر ببال أي من اهل حيفا - بعد السكون الذي كان عاما و مدهشا انفلقت السماء عن النار و الارض تفجرت بفعل الدوي و الازيز , و ما فعلته في السكون - اذ احرقته دفعة واحدة - تلك العربة المجنزرة التي يقول الشهود انهم يظنون انها خرجت من باطن الارض - او كأن الارض انشقت عنها .‏

انقلب المشهد في المدينة - كلها : ازيز و دوي و صراخ - ركض و مناجاة ومناداة - دخان اسود من هذا الشارع و مثله من تلك الطريق . و صيحة ألم مكتومة النهاية - سقوط و انفجارات .. اما الاب فإنه سارع الى حمل ابنه و زمجر و ازبد و ارعد . كان يهمهم ويدمدم ( اولاد ال .. الانكليز اعطوهم دبابات. هؤلاء ليسوا فقط من الهاغاناه و لا من الشتيرن الانكليز معهم ) . و لتجنب الرصاص راح يحاذي الجدران و يلج الازقة القريبة متجهاً صوب البحر . مثله كان كثير من الرجال و من النساء و من الاطفال . منهم من كان لا يحمل شيئا و منهم من كان قد اثقل كاهله بحمل كبير , صندوق , أو ملابس , أو فراش .وقعت عينا الطفل على رجل يقرفص ثم ينهال على ركبتيه ببندقية ليكسرها . ( يا به ليش الزلمة يكسر العصا?) اجاب الاب و هو يلهث - بعد ان اخذ يعدو : لأنها صارت عصا , هذه بارودة .. خلص فشكها , الرجل يكسرها حتى لا يفيد منها اليهود و الانكليز ) . ثم اطمأن الى ان السلة ما زالت معلقة بذراعه اليمنى قبل ان تغرق عيناه في اليم و الدمع معا . البحر - آه يا بحر . يركض و مثله يفعل كثير من البشر صوب ( الشخاتير ) . ينتظر عدد من اصحاب الزوارق على نار. كان احدهم قريباً .. يسأله : أين يمكن أن تنقلنا ? يجيب الرجل : الى .. ( الطيرة). لم يجب الاب بلسانه بل بحركات رجليه و جسمه مع ابنه الصغير الذي هاله ما يحدث . اخذ يبكي , للمرة الاولى منذ اندلاع نار الحريق و القتال .( لا تخف بني ) . ارتعدت فرائص الطفل . وازداد نحيبه ( ما بك ) شعر بضمة قوية , و احس بقليل من الطمأنينة . ( ليش بتقول هاي المرة يوم القيامة هذا ?) قال الاب : اسكت و اهدأ حتى نعود سالمين الى امك و اختك . هرج و مرج . اختلطت اصوات الناس بالصيحات و النداءات بالازيز و الدوي . و قفز الى الزورق الصغير نحو عشرين انساًنا . ,و لم يتوقف سيلهم الا حين صاح صاحب الزورق : راح تغرق بس خلص . ثم شرع يدفع الزورق بالمجذافين بعيداً عن رمل الشاطىء و الى عمق البحر .‏

وصلوا الى ( الطيرة ) و هناك حمل الوالد ابنه و السلة , و كانا ضمن مجموعة من اهالي الطيرة و جبع و عين غزال و اجزم . ساروا في موكب حزين صامت , رؤوسهم مطأطئة .. و النيران في القلوب تخرج قطرات دمع محرقة .. تترك ممرين محمرين يمين و يسار الانف . و فجأة سمع الجميع صوت الرجل . كان صوتاً شجياً , مترعاً بالحنان و غارقاً في الحزن , عميقاً كأنه استل ذاته خلسة من بين القرون و النجوم والسحب , و لن تفارقه رقة الياسمين و صفاء و عذوبة مياه الغدران , و كان للايقاع وقدرته على الولوج الهادىء اليسير الى الافئدة . كان صوتاً جذلاً باكياً من غير نواح , حاداً من غير قطع , عميقاً من دون اختفاء , جهورياً من غير فجاجة : آه و آه .. يا وطن . و يلي على الاوطان .. من غارات العدوان ).و امتد النحيب كسريان النار في هشيم يابس و جاف . و الى ان ذاب فؤاد الطفل كما ذابت افئدة كل الذين كانوا في موكب الرجوع الى بيوتهم و قراهم ( و لك .. يا ويلي .. آخ عجاج و ما حدا ودع حدا ).‏

كان ذلك في يوم الحادي والعشرين من نيسان عام 1948 . لم يسمع الطفل صوتاً شجياً حزيناً مثل صوت ابيه الى ان كان بعد عامين يصغي ( في الشعبية) الى صوت يخرج من بين شفتين تتراقصان ارتجافاً لتهتز في الاثر لحية كثة شقراء من استاذ و شيخ علمه الحرف الاول هو ( الشيخ توفيق البجيرمي ) - كان الشيخ يعلم التلاميذ الصغار اللاجئين : ( ويلي على الاوطاني من غارات العدواني ) .‏

كيف للجرح ان يندمل إلا برص طين البلاد الاحمر فيه مع مياه بحر حيفا (المالحة ) و زرقة ترقص عليها الشموس كما في عيون برئت بعد ان تقرحت من الفرقة و الشتات nawafabulhaija@yahoo.com‏

">?‏

nawafabulhaija@yahoo.com‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية