لدرجة يصعب فيها تمييزه لولا ملامحه العريضة وهويته التي ينسب اليها والحضارة العربية التي انتشرت في أصقاع العالم أثبتت قدرتها على الاستمرار والتأثير بالآخر بما قدمته وتقدمه من ثقافة ضاربة الجذور في عمق تاريخ الأمم.
وغزو العولمة ومحاولات بعض الشعوب فرض ثقافتها وحضارتها بأساليب لا تمت للمنطق والحضارة بصلة إنما هي محاولات لابد أن تبوء بالفشل, فالتأثير بالآخر لابد أن تسبقه حضارة وثقافة يشهد لها الزمن ومعالم خلاقة ومبدعة تسهم إسهاماً كلياً في حياة وثقافة المتأثر.
ومن أكثر البلدان التي تظهر الملامح العربية فيها اسبانيا التي لا تزال تعيش من عائدات السياحة على منشآت المدن العمرانية التي خلفها العرب وراءهم,ثم يأتي الكاتب والباحث المكسيكي ( ألبير توروي سانتشيث) ليحدثنا عن الأثر العربي في المكسيك أيضا والذي انتقل اليهم من إسبانيا, ففي محاضرة استمرت ساعتين في مكتبة الأسد وبدعوة من الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية حرص الكاتب ( روي سانتشيث) أن يقدم أكبر قدر ممكن من الملامح العربية وتجليات الثقافة العربية في الثقافة المكسيكية لدرجة اعتبرها المكسيكيون أنها أعمالهم, وفي أول رحلة للكاتب إلى بلد عربي وهو المغرب وجد أن أحد أسواق المغرب هو سوق مكسيكي, ودهش لهذا التشابه فالسيراميك والأعمال الخزفية وصناعتها في الفرن كلها تنتج في المكسيك, وهذه الصناعات وغيرها من التقنيات المستخدمة لصناعة أدوات الطعام والملابس والأسقف الخشبية للمنازل كلها تقنيات وصلت اليهم في القرون الأولى من غزو الإسبان للمكسيك ولم يقتصر الأمر على ذلك فقد كان عدد الفاتحين الاسبان الذين وصلوا إلى المكسيك قليلاً جداً بالمقارنة مع عدد السكان إلا أنهم بهذا العدد القليل استطاعوا فتح البيرو, وكان حجم الامبراطورية البيروية يوازي حجم أوروبا, والتفسير الوحيد لقدرة هؤلاء القلة على فتح البيرو هو امتلاكهم التقنيات العربية الحربية وتدريب جنودهم على أيد عربية, وإذا مازرت إسبانيا اليوم ستجد قرى صغيرة محصنة تشبه نظام القبائل وبعضها كان عربياً ومع مرور الزمن أصبحت مسيحية.
الاختلاط والتزاوج من أهم تقنيات الفتوحات العربية
واعتبر الكاتب المكسيكي (سانتشيث) أن أهم تقنية امتلكها العرب أثناء فتوحاتهم والتي تميزهم عن شعوب العالم الآخر هو الاختلاط والامتزاج وحتى التزاوج وبهذه الطريقة نشروا حضارتهم وثقافتهم, في حين أن فتح أميركا الشمالية لم يعرف هذه السمة والخصلة العربية بل اعتمد على القتل والتدمير والعزل, ما يعني أن أميركا متأخرة جداً في الاختلاط مع الناس وماكنا نعيشه في القرن السابع عشر ربما أميركا اليوم تعيشه.
حقيقة الدم النقي كذبة
ويقول الكاتب: إسبانيا الحالية والبرتغال اليوم كان ثلثاهما عرباً في فترة الفتوحات العربية, وأسطورة الدم الإسباني النقي التي تعلمناها في المدرسة كذبة, لأنه خلال وجود العرب على مدار ثمانية قرون لم يبق دم نقي خاصة وأن سياسة العرب قامت على الاختلاط والتزاوج, فنحن كمكسيكيين خليط من العرب والبربر لأن الكثير من الموجات التي سكنت المكسيك من البربر والعرب.
أربعة آلاف كلمة إسبانية جذورها عربية
ففتوحات أميركا الهمجية وبحثها عن مصلحتها في الثروة وعلاقاتها مع الدول جعلها تهتم باللغة اللاتينية وتسعى لانتشارها حينها كانت إسبانيا لديها لغة محلية عام ,1492 أما العرب فكانت لغتهم مكتملة وناضجة, حينها جاء رجل يدعى ( أنتوني بروبريخا) ويعتبرونه في إسبانيا بطلاً, جاء ووضع أول قاموس للغة إسبانيا وفي هذا القاموس حاول أن يكون مخلصاً للاتينية أكثر من العربية فأخذ يحذف كل الكلمات التي جذورها عربية ويستبدلها بمفردات لاتينية وبرغم كل جهوده في محو آثار العربية في لغة إسبانيا بقيت 4 آلاف كلمة مستخدمة في الإسبانية إلى الآن جذورها عربية.
نماذج عن كلمات مكسيكية جذورها عربية
كلمة (بسين) تستخدم في إسبانيا لوصف المسبح, بينما لا يزالون في المكسيك يستخدمون كلمة ( البركة) ويقال عن أفضل زيت زيتون في إسبانيا أوليفا في حين لا تزال المكسيك تقول عنه زيتونة.
و(أنتوني بروبريخا) كان يحاول أن يطهر اللغة الإسبانية إذا جاز التعبير وقرر بأن معاني الكثير من الكلمات سيكون وصفها أفضل اذا ما أرجع إلى الأصل اللاتيني لكلماتها, هناك كلمة في إسبانيا تسمى (السومبرو) أي أحد الروائع, الدهشة, واذا ما نظرت إلى معناها في القاموس الإسباني لا تعني أنه اندهش أو تعجب بل تعني أن تضع نفسك تحت ظل, أن تصبح حزيناً, وأن تجعل اللون الفاتح غامقاً, هذا القاموس أخرجها من المعنى الحقيقي لها لتقترب من اللغة اللاتينية, ليكونوا أمينين من الأصول اللاتينية لأنهم يعتبرون أن تكون المعاني ملتصقة باللغة اللاتينية أكثر إخلاصاً.
بريستيج مؤسس قاموس إسبانيا
هذا الرجل (نبريخا) والذين عاصروه لعدة قرون واشتغلوا في القواميس اعتبروا أن إخلاصهم للجذر اللاتيني للكلمات أهم بكثير من إخلاصهم والاهتمام بالمعنى الحقيقي للكلمات, ونبريخا اسم هذا الرجل هي كلمة لاتينية وليست اسمه الحقيقي بل اسمه رودريكس وقد ولد في اشبيلية الأندلسية ولكنه أراد أن يغير اسمه ويأخذ اسم فاتح روماني أتى إلى اسبانيا ويدعى نبريخا ويأخذ هذا الاسم الروماني ليكون له بريستيج وهذا له كثير من المعاني بأن القواعد التي ظهرت في ذلك الوقت 1492 صدرت مع طرد آخر ملوك العرب في غرناطة وكذلك اكتشاف أميركا, وكان هناك ضرورة لتطوير لغة جديدة لامبراطورية جديدة ومعها تمت المحاولات لمحو الجذور العربية للكلمات وإقحام اللاتينية إقحاماً مكانها.
والكلمات المشتقة من ميدان المعركة, وميدان البناء والتعمير والحرف اليدوية نصف هذه الكلمات تأتي من أصل عربي والمستخدمة في حضارة من الحضارات لأنه لم يكن هنالك كلمات مستخدمة في ذلك الوقت لأنه لم تكن حضارة سابقة للعربية وعندما تزور ولاية في المكسيك تجد كنائس لديها أسقف تقنيتها تشبه تماماً التقنيات المستخدمة في أسقف الجامع الأموي وحتى الكنائس الحديثة منها.
وكلها ذات جذور عربية كما هو الحال في القصور الأندلسية في قصر الحمراء, تجد في المكسيك أكثر من مئة سقف من المنشآت ذات أصل عربي, والمشكلة أن الناس لايدركون أن هذه ذات أصول عربية,فهي أتتهم من إسبانيا ولكن مصدرها عربي في إسبانيا.
وحتى الأعمال الفضية في المكسيك تشبه ما هو موجود في دمشق..
تطوير مستويات اللغة المكسيكية بمنطق عربي
وللكاتب (ألبيرتو روي سانتشيث) مآخذ على أصدقائه الإسبان الأساتذة الجامعيين في التاريخ وعلى استخدامهم لكلمة الغزو العربي, فهو يعتبر أن ثمانية قرون للعرب في إسبانيا لا تعني غزواً , ونقاط التلاقي بين المكسيكيين والعرب كثيرة وأهمها الود الذي يتحلى به الناس فهو لم يشعر بالغربة في دمشق, وأميركا لا تفهم هؤلاء الناس واللطف لديهم, فالأشياء في الولايات المتحدة الأميركية إما حقيقة وإما لا, إما أبيض وإما أسود, حتى روح الدعابة مفقودة هناك, وهذا يقودنا إلى مستويات اللغة فنحن في المكسيك لم نكن لنتمكن من تطوير المستويات المختلفة لمعاني الكلام لو لم يكن لدينا منطق عربي وأن نصل لحقيقة الأشياء من خلال الأحاسيس وليس المعنى فهذا جذوره ضاربة في اللغة العربية فعلى سبيل المثال في قصر الحمراء ( صنابير المياه, خرير المياه, الحدائق,العمران من حولك).
تتجسد كل حواسك هناك فكل شيء مخطط ليؤثر على حواسك وحتى المكان الديني من القصر كلها تقودك للبحث عن حقيقة ما وراءك..
كل هذه المؤثرات العربية جعلتني أكتشف أنني أريد أن أكون كاتباً مرتبطاً بحقيقة القاصين الذين يروون الحكايا, وتعلمت أنه عندما أنتج عملاً أدبياً يجب أن أتقنه ومن كل جوانبه لأنني اعتبرت نفسي فناناً ورساماً عربياً يضمن كل الجوانب بأبعادها وأتأمل الحب والحياة من خلال (طوق الحمامة) لابن حزم وقررت استبدال التشويق في رواياتي بالموزاييك العربية لأننا نتعلم الكثير عن أنفسنا في العربية.
***
الكاتب في سطور
ولد الكاتب المكسيكي ألبيرتو روي سانتشيت في مدينة مكسيكو 7 كانون الأول 1951 صدر له أكثر من عشرين كتاباً في الشعر والقصة القصيرة والرواية والدراسة.
عمل منذ عام 1988 مديراً عاماً في مجلة فنون المكسيكية ودار النشر التي تصدر عنها المجلة.
أبرز أعماله:
رواية: أسماء الهواء 1987- شفاه الماء- عن الماء والهواء- حدائق مغدول السرية- الدهشة سبع مرات- يد النار.
قصص قصيرة: أبعاد اللغة- حكايات مغدول- عن كيف وصلت الكآبة إلى مغدول
دراسات: ميثولوجيا سينما في أزمة - على حد الشفرات - الأدب في الجسد- حوار مع أشباحي - مغامرات البصر.
ومجموعة شعرية ( المنيعة).