تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


فيرجينيا وولف ...السرد في المياه العميقة بعيداً عن غرفتها الخاصة

ملحق ثقافي
2012/5/29
ترجمة: دلال إبراهيم:«كانت حياتها عبارة عن مغامرة استثنائية حتى في أوج أزماتها» كان هذا جواب جاك أوبير المسؤول المشرف على طبعة مجموعة

الكاتبة البريطانية فيرجينيا وولف عن سؤال طرحته عليه المجلة الأدبية بمناسبة تكريم دار «لابلياد» المرموقة وإصدارها الأعمال الكاملة للروائية البريطانية، أحد أبرز القامات الأدبية في القرن العشرين، والذي جاء عقب مرور 71 عاماً على وفاتها المصادفة في 28 أيار من عام 1941، وكان لها من العمر حينها 59 عاماً. ولكن فكرة التكريم لم تكتمل، إذ كان من المفترض أن تنشر «لابلياد» ثلاثة أجزاء لتضم كتابات وولف كافة، ولكن اكتفت تلك الدار بإصدار عشرة روايات ومجموعة من قصصها القصيرة التي لم تنشر خلال حياتها. مع ترجمات جديدة لها غيرت فيها من بعض العناوين ولكنها ظلت وفية للنص الأصلي، إلى جانب نصوص تحيط برواياتها، بحيث تبدو وكأنها مقتطعة من روايتها «السيدة ديلاوي» أو «غرفة يعقوب» وبقيت الدراسات النقدية لهذه الروائية خارج إطار التكريم.‏

وتعد الكاتبة وولف الأديبة التاسعة في عداد المكرمات من قبل الدار الفرنسية التي كرست إصداراتها لعمالقة الأدب، ومن تلك النساء الأديبات المكرمات، على سبيل المثال لا الحصر الكاتبة كوليت ومارغريت دوراس ويورسنار وجورج صاند وسيروت وغيرهن. وفيرجينيا وولف الثائرة والهادئة والصارخة والمنتحرة احتجاجاً، ما زالت تشكل مادة غنية للدراسات واستلهام اللوحات الفنية، خصوصاً طريقة انتحارها وخطابها النسوي، وغرفتها التي صدر عنها أكثر من دراسة.‏

وتساعد عملية تجميع هذه الأعمال العظيمة للأديبة البريطانية في الإحاطة جيداً بأعمالها الخاصة بالمخيلة الأدبية، أي بمعنى نتاجها الروائي فقط، وهو مهم بالنسبة إليها بقدر أهمية النتائج. ويقود سبر أغوار هذا العالم الروائي الضخم، أحد أثرى العوالم الأدبية خلال القرن العشرين، إلى الاهتمام بالعنصر الذي يشكل في نهاية المطاف الشكل والبنية، بمعنى آخر المياه وحركتها، مسارها وسيولتها، والتيار الذي ينبغي التقاطه، المياه السريعة والمثيرة للقلق لغاية الوصول إلى المياه الراكدة، التي انبثقت عنها أوهام الأديبة. وتجسد الكاتبة التغيير وأيضاً الأعماق التي رغبت في الوصول إليها.‏

أصبحت صورة فيرجينيا وولف أكثر وضوحاً منذ بضعة أعوام. عقب نشر أجزاء من يومياتها، ذلك أن هذا العمل الذي وضعه الباحثون في مصاف يوميات كبار الكتاب، من دوستويفسكي إلى هنري جيمس، عرف كيف يسلط أضواء جديدة، وغالباً مفاجئة على روايات الكاتبة نفسها، بالنظر إلى أن فيرجينيا كانت اعتادت أن تكثر من تدوين صفحات في يومياتها حين تكون منكبة على كتابة رواياتها. ومن هنا شكلت اليوميات إطلالة أخرى وعميقة على الدوافع والظروف وضروب التطور التي واكبت أو استبقت كتابة فيرجينيا لأعمال كبيرة لها مثل «السيدة دالاواي» و»غرفة يعقوب» وغيرهما. وتأتي لتضيء أيضاً حقبة كاملة من تاريخ المجتمع والحياة.‏

ومن يتأمل قليلاً في سيرة حياة وولف الصاعقة يجد مصائب كثيرة لازمتها في حياتها، كان من بعضها ويلات الحرب العالمية الثانية وتدمير منزلها في لندن خلال الغارات الجوية للطيران النازي على بريطانيا. وهذه الروائية التي تعتبر بحق أحد رموز الحداثة الأدبية والتي انتقدت بحدة وقسوة الحقبة الفيكتورية بكل ما تمثله من أدب وفكر، كانت تعاني حالات صرع واكتئاب ومحاولات انتحار، حتى أصبحت حكايتها التي لا يمكن فصلها عن كتبها معروفة جيداً، مثل فراقها المؤثر عن والدتها التي توفيت حين كان عمرها 13 عاماً، والتحرش الجسدي الذي تعرضت له على يد أخيها غير الشقيق، وتعلقها بشقيقتها فانيسا وصداقاتها مع مجموعة بلومزبيري الأدبية التقدمية، التي لعبت دوراً في الفكر الإنكليزي الليبرالي في أوائل القرن العشرين، وأعطت اسمها للانتلجنسيا الإنكليزية في سنوات العشرين. وعلاقتها مع فيتا ساكيفيل-ويست وزواجها من ليونارد وولف ولا سيما مرافقتها له طيلة حياتها، وعيشها حياة متقطعة من الجنون الذي تذكره في يومياتها ومراسلاتها، وأيضاً في خيالاتها.‏

صدمات أصابتها في طفولتها ظللت حياتها بمسحة حزن لازمتها طويلاً، جعل الانهيار النفسي والعقلي يشق طريقه إليها ويتوغل فيها كلما تقدم العمر بها. ولكي تروي ذلك، استخدمت فيرجينيا وولف الصورة واستخدمت لجات البحار التي كانت تخشاها ولكن تمتطيها مع خوفها أن تغرق فيها. نظراً لأن ما كانت تبحث عنه وولف قبل كل شيء في عملية الإبداع الأدبي هو اللحظة الآنية، لحظة الكائن، اللحظة القصيرة التي تشعر فيها أنها موجودة وعليها التقاطها بسرعة. كما وتحفل اليوميات باستعراض ثاقب ومختصر في معظم الأحيان لأعمال تنتمي إلى آداب العالم كله في مجال الشعر والفلسفة والرواية والفنون، وانطباعاتها عن كل ما كانت تقرأه. أي رسم صورة لقراءاتها. واستبعدت دار لابلياد من مجموعتها المنشورة عن أعمال وولف نشر كتابها الشهير «غرفة خاصة بالمرأة وحدها» والذي يعد بمثابة «مانيفستو» الحركة النقدية النسوية في القرن العشرين.‏

تتخيل وولف أنه لو كان لشكسبير أخت، فلن تقل عنه عبقرية، ولكنها لم تحظ بالفرص التي توافرت له، فهي لم ترسل إلى المدرسة ولم تُشجع على التعليم في البيت ولم تكتسب سوى خبرة ضئيلة في الحياة، ولم يكن لديها متنفس لعبقريتها. وتتوجه وولف في كتابها إلى طالباتها متسائلة: هل لديكن أي فكرة عن عدد الكتب التي يكتبها الرجال عن النساء في عام واحد؟ هل تعلمن أنكن ربما كنتن أكثر المخلوقات موضوعاً للنقاش في الكون؟ وتطرح تساؤلاً أساسياً في كتابها حول غياب أو ندرة الكاتبات في عصر النهضة والقرن السابع عشر، وتبين أن افتقار النساء إلى التعليم والمال، ووطأة القيود الفكرية التي يخضعن لها يولد لديهن إحساساً بعدم الأمان ومحو الذات، ويمارس تأثيره على تفكير الكاتبة. وأحد العوائق الأساسية التي تواجهها أنه ينظر إلى كل عمل نسوي كما ولو أنه انبثق من لامكان، كما لو أن كل واحدة عاشت وفكرت وعملت من دون مخاض تاريخي.‏

وتلتفت فيرجينيا وولف إلى إميلي وشارلوت برونتي وجين أوستن، وولف نفسها، كن بلا أطفال، ما يفسر امتلاكهن الوقت للكتابة. لكن النظام البطريركي ينظر إلى النسوة بلا أطفال على أنهن نساء غير حقيقيات.‏

في الفصل الأخير تتكلم وولف عن إمكان وجود عقل بلا نوع «أي لا يحمل السمة الذكورية أو النسوية» مستشهدة بمقولة كولريدج «العقل العظيم هو عقل لا يحمل نوعاً ما، فإذا ما تم هذا الانصهار النوعي يغدو العقل في ذروة خصوبته ويشذ طاقاته كافة»، وتضيف «العقل تام الذكورية ربما ينتج شيئاً أكثر من العقل تام الأنوثة».‏

وقد راودت بطلة روايتها «السيدة دالاواي» كلاريسا دالاواي، التي تتنزه في لندن في يوم مشمس جميل من أيام شهر حزيران قبل الاستقبال الذي أعدته، مخيلة فيرجينيا وولف منذ سنين عديدة. وفي روايتها الأولى – المعابر- «1915» تبدو وولف فيها تشكل مع زوجها زوجين متفاخرين. ومن ثم أثرت هذه الصورة وعمقتها في قصصها القصيرة التي جمعتها تحت عنوان «حول السيدة دالاواي». وقد وجدت فيرجينيا وولف في الطبعة الأخيرة من الرواية عام 1925 عقدة المخيلة: التناقض بين صورتي الشخصيتين اللتين تسيران في لندن دون أن يعرفا بعضهما.‏

وقد استعارت فيرجينيا وولف من بطلتها كلاريسا اندفاعها نحو العالم، هذا العالم الجميل والرهيب في آن معاً وكذلك غموضه، استعارت قدرتها على الإمساك بالواقع ضمن معجزة اللحظة، وأيضاً الشعور بالفراغ داخل ذاتها الذي لا يستطيع أي شيء إشغاله. هذا المكان المحجوز للرغبة المستحيلة صورته في روايتها «النزهة نحو المنارة – 1927» صنو عذابها اليومي في حركته المتكررة إلى الأبد، من خلال بناء حطمته الرياح والأمواج، مرمى النزهة التي لم تقم فيها السيدة رامساي وزوجها البتة. كانت وولف تتوق من خلال روايتها إلى طرد شبح والدها ووالدتها. ومع ذلك فقد بنت أحداث روايتها «الأمواج – 1931» حول صورة مجردة، حيث تبحث ستة أصوات وست شخصيات عن صديق مختف.‏

وأصبح شبح الجنون أكثر قوة أثناء كتابتها آخر رواياتها «بين الأفعال» التي تم نشرها بعد وفاتها عام 1941، وطاردت فيرجينيا آخر مرة لحظات الوجود والحياة في عرض مسرحي على خشبة مسرح ريفي في أحد أيام الصيف. وبعد مضي بضعة أيام، اختارت فيرجينيا وولف التي هجست بالجنون والمرض والموت منذ سنين مراهقتها الأولى، ولم تبرأ من هذا كله أبداً، وإن كانت قد وضعته داخل رواياتها الكبيرة. ولو أن الأدب شكل ترياقاً لآلامها، غير أن الترياق لم يدم مفعوله طويلاً، إملاء جيوبها بالحجارة وإلقاء جسدها في نهر أوز القريب من منزلها لتنهي آخر فصل من رواية حياتها. وقبلها كتبت في أحد نصوصها التي تم العثور عليها بعد وفاتها تقول فيه «لدي رغبة في الرقص، الضحك، تناول الكعك الوردي والأصفر وشرب النبيذ... أحزان، أحزان. أفراح، أفراح. منسوجة مع بعضها البعض».‏

عن المجلة الأدبية الفرنسية‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية