الكترا تأخذ المقص لتقص شعرها إشارة لتصميمها على الانتقام. ريح عاتية تأخذ الشعر المقصوص بعيداً عبر نوافذ الصالة الكبيرة في القصر الملكي،
ذهب الشَعْر بعيداً ولم يعد هناك مجال للتراجع.. إنه القدر. مشهد لا يتجاوز عرضه ثوان معدودة في مقدمة فيلم مايكل كاكويانيس الرائع «الكترا». أحد النقاد قال: عندما رأيت هذا المشهد أدركت أن كاكويانيس ربح فيلمه.
طيور بيضاء من الحمام الشامي خلف نوافذ غرفة في دمشق القديمة تحاول ضرب الزجاج بأجنحتها كي تخرج إلى فضاء الحرية «في الخمسينيات». لقد ربح محمد ملص فيلمه أحلام المدينة عبر هذا المشهد - المقدمة.
في مشهدها الأول ربحت أمل سنجابة روايتها «ومضات» المؤلفة من ستة وعشرين مشهداً «فصلاً». بل لعلها ربحتها من صفحتها الأولى: «أراه يتكور بهدوء في حضنها، فتلتف يداها لتغمره بحنو، وتهدهده باهتزاز رقيق متتابع يصاحبه نغم أوتارها الصوتية الهادئة الضعيفة. أما جسده فيجاري تحركها الهادئ ونغمها الخافت مستسلماً تماماً، فتقوده بدراية وكأنهما راقصان على سطح جليد، ينسابان بخفة وثبات وانسجام».
ربحت أمل معركتها من الأسطر الأولى. فمعركة الأدب لها ثلاثة ميادين على الأقل، البراعة في اغتصاب اللغة، ثم النجاح في اغتصاب المعنى، وأخيراً اغتصاب العلاقة بين الواقع وما فوق الواقع، إن صح التعبير.
في اغتصاب المفردة «اللغة»
رغم أن هذا الجانب أداتي وتقني إلا أن الأدب يرفض الفصل بين الأداة والموضوع، الشكل والمضمون، كما تفعل العلوم. فالشكل «الأداة» تتبادل مع المضمون «المعنى»، الأماكن والأدوار في اتساق متداخل ومتفاعل. وهذا هو البعد الجمالي للأدب، ولولا هذا البعد الشعوري لكان الأدب مجرد نص محايد.
ولا شك في أن أهم أشكال اغتصاب اللغة الكناية والمجاز والتورية وغيرها من الأدوات المعروفة. كلما أكثر الأديب من استخدام هذه الأدوات، أي كلما بالغ في اغتصاب اللغة، كان عمله أكثر إقناعاً رغم أنه يعرّض نفسه للفشل، تماماً كمن يسير على حافة الهاوية معرضاً نفسه للسقوط باستمرار.
لا أستطيع فعلاً ذكر الصور الكثيرة التي عبرت فيها أمل سنجابة عن قدرتها المدهشة على اغتصاب المفردات اغتصاباً مستمراً، عنيداً، يتعب القارئ ويمتعه في آن.
لعل أكثر من برع في «عملية الاغتصاب» في الأعمال الإبداعية الموسيقيون الكبار. إنهم يغتصبون الصوت لأن أي صوت عال هو في طبيعته مزعج، لكن اغتصابه عبر القطعة الموسيقية تمتعك شرط أن يكون الاغتصاب مستمراً، عنيداً، دون أي انقطاع ولو لجزء من الثانية، أي دون حصول نشاز. وكل من يسمع تشايكوفسكي أو بتهوفن يشعر بهذا الاغتصاب المتعب للأذن والممتع لها في الوقت نفسه.
الأديب الحقيقي ليس هو ذاك الذي يغتصب اللغة عبر محطات محدودة تزين نصه، وإنما ذاك الذي يستمر في اغتصاب المفردات ويصيغها مغتصبة في بوتقة واحدة تنساب بهدوء لتتسرب عبر مسام حواسنا وتصل إلى أعماق الشعور، أي لتغتصب شعورنا ونحن راضين ومستمتعين.
أتعبتني قراءة أمل سنجابة وأمتعتني. نصها يكاد يصل إلى مستوى النثر الرفيع، والنثر يصارع الشعر فيكاد يصرعه، فخير ما كتب العرب كتبوه في النثر بالذات.
تكتب أمل: «يرنو إليها ببصره وتتعلق نظراته بوجهها خاشعة تقية وكأنه في حضرة إله». لا تريد الكاتبة أبداً أن تكون شاعرة، إنها تحاول أن تكون موسيقية، فلا يمكن لأحد أن يتمثل هذه الصورة الرائعة ويعيشها إن لم يكن له إذن موسيقية. لماذا؟ لأنه تجريد. إنه اغتصاب المعنى.
في اغتصاب المعنى
مشكلة النص الشعري والنثري أنهما يلهثان وراء المعنى، ما يضطرهما، هنا وهناك، إلى الابتعاد عن الجمال. إجمالاً لا ينجح الشعر والنثر في اغتصاب المعنى، رغم نجاحهما في اغتصاب اللغة. هما يستخدمان أدوات البديع اللغوي بالتوازي مع المعنى لكن المطلوب أن تندمج اللغة المغتصبة في المعنى وتذوب فيه.
كل نص عبارة عن تركيب، لكن هناك تركيب فيزيائي هو عبارة عن خلط بين المكونات، مع احتفاظ المكونات بخصوصيتها، وهناك تركيب كيميائي هو عبارة عن تفاعل وتداخل وذوبان للمكونات. الشعر يبقى غالباً عند التركيب الفيزيائي، بينما تتخطاه الموسيقى والفن التشكيلي، الانطباعي بوجه خاص، إلى التركيب الكيميائي، أي إلى ذوبان المكونات وظهور تركيب جديد، خصائصه غير خصائص مكونته، تركيب قائم بذاته، ذي نوعية خاصة، «sui generis» كما يقول اميل دوركايم في بحوثه حول الظاهرة الجمعية والظاهرة الفردية.
كل من يقرأ قول امرئ القيس: مكر مفر مقبل مدبر معاً كجلمود صخر حطه السيل من علٍ، يعلم أن المقصود أن يصف الشاعر شجاعة حصانه وديناميته. لا يمكن أن يختلف على ذلك اثنان. اللغة مغتصبة لكن المعنى واضح يكاد يصل إلى ابتذال الخبر، المعلومة.
«كيميائية» الموسيقى والفن تقوم عبر التجريد؛ حيث يتبع اغتصابُ المعنى اغتصابَ الأداة. في الفن التشكيلي نرى هذا في الانطباعية والتكعيبية والسريالية وغيرها. أما الموسيقى فهي أبرع من يغتصب المعنى لأنها تقوم على التجريد فتنتقل بسامعها إلى عوالم يختارها هو بالذات لدرجة أن الجالس بجانبه يمكن أن يختار عوالم أخرى وهو يستمع إلى اللحن نفسه.
في الأشياء تجد المعنى محصوراً في وظيفتها لا في مادتها. لا معنى للخشب ولكن هناك معنى للطاولة أو الباب. لا معنى للحديد لكن هناك معنى للسيارة. لا معنى للحجر لكن هناك معنى للبناء. إن معنى الخشب والحديد والحجر يُغتصب لصالح معنى الباب والسيارة والبناء. وحتى معنى هذه الأشياء التركيبية ليس سوى وظيفة، أي علاقة. كان للعربة التي تجرها الخيول معنى لكن مع اختراع السيارة أصبحت هذه العربة بلا معنى. وفي الوقت نفسه يمكن أن تستخدم الطائرة، ذاتها، لنقل الركاب أو البضائع أو قصف المدن وتدميرها. الطائرة نفسها لكن المعنى اختلف. المعنى خيار وليس حتماً. المعنى ليس موجود «في الشيء»، هو «للشيء» إنه وظيفة، علاقة.
في الشعر والنثر لا يكون المعنى خياراً وإنما يفرض هذا المعنى على القارئ فرضاً على الرغم من جمالية اغتصاب الأداة، اللغة. في الشعر والنثر يفلت المعنى من الاغتصاب.
أعتقد أن مشكلة الأدب الحقيقية هي في عجزه عن اغتصاب المعنى. الأدب الحديث يحاول تجاوز هذا العجز عبر الرمزية وغيرها من فنون التجديد. فكلما بالغ الأدب في اغتصاب المعنى عزز حرية القارئ في الاختيار. تصور مثلاً أن يقول لك بيتهوفن إن هذه الجملة الموسيقية معناها أن العاصفة هبت على السفينة فقلبتها في البحر، أو أن يقول لك الانطباعي أو السريالي إن لوحتي تعني كذا وكذا. إن عمله يصبح عملاً علمياً وتنتفي عنه صبغة الأدب أو الفن.
على الرغم من ابتعادها عن الرمزية فقد برعت أمل سنجابة «وهذه موهبة أكثر منها دراية» في اغتصاب المعنى وترك القارئ حراً يختار ما يشاء من معاني صورها. في المشهد الأول والمشهد الثاني «حوالي 7 صفحات» تقدم لنا هذه المرأة صوراً رائعةً لعلاقة بين رجل وامرأة، لكنها لا تقول لنا من هما؟ هل هما عشيقة مع عشيقها، ابنة مع أبيها، أم مع ابنها، أخت مع أخيها؟ ليس هذا مهماً. اختر أيها القارئ المعنى الذي تريد، المهم أن الصورة وصف تجريدي لعلاقة بين أنثى وذكر وهي علاقة يمكن أن تنطبق على الحالات المذكورة كلها باختيار القارئ. هذه براعة ومغامرة في الوقت نفسه. هي مشي على حافة الهاوية. لكن أمل غامرت.. ولعلها نجحت، الحكم للقارئ.
اغتصاب العلاقة بين الواقع وما فوق الواقع
الاغتصاب هنا أيضاً معناه ذوبان أمرين يبدوان متناقضين، الواقع واللاواقع، في تركيب واحد فيه جمالية واتساق وانسجام.
أناثوميا «ومضات» أمل سنجابة تشير إلى أن الذوبان تم عبر قنوات ثلاث، بوح الشخصية الرئيسية في الرواية، وعبر الزمان، ثم عبر المكان.
البوح: رواية ضمير المتكلم، أي رواية البيوغرافيا، تعري الكاتب. وكلما ازداد الصدق ازدادت التعرية. ربما كان آرنست همنغواي واحداً من أهم كتاب رواية البيوغرافيا الذين استطاعوا الهروب من التعرية لسبب واحد هو أنه استسلم لما فوق الواقع، أي أنه حوّر كثيراً في بوحه. منتقلاً من الواقع الحقيقي إلى الواقع الافتراضي، ما فوق الواقع.
أمل أكثر صدقاً بل هي «تفضح» علاقات حقيقية مع محيطها. هي أقرب إلى «أيام» طه حسين. إنها اعترافات صادقة فيها من الواقع الكثير. أما ما هو فوق الواقع عند أمل: صورتها عن نفسها، أي ذاك الواقع الذي لم يتحقق. نحن هنا أمام امرأة شغوفة بالحياة، متعطشة للحب، أنثى طموحة مبدعة، مشروع شخصيته استثنائية، لكن الحب «اغتالها» فتحولت إلى امرأة عادية جل طموحها حياة زوجية سعيدة لم تنجح في تحقيقها.
إنها مشكلة «لامنتمي» كولن ولسن. هو كائن وحيد، معزول، استثنائي، لكنه في النهاية غالباً ما يستسلم أو يصبح مجنوناً. اللامنتمية أمل لا تكره الحياة بل لعل مشكلتها أنها تحب الحياة أكثر من الناس العاديين، وهذا يعني أنها تريد نوعية أفضل من الحياة، نوعية تتحقق فيها ذاتها. أحبت الحياة فوجدت هذه المحبوبة مبتذلة عادية، وأحبت زوجها ووالدها فوجدتهما يبحثان عن نوع آخر من الحياة، نوع مفعم بالملذات الحسية.
أنثى قوية بين رجلين قويين. أحبت فيهما رجولتهما واندفاعهما للحياة. لكنها كرهت فيهما «الاستسلامية الحياتية» التي أبعدتهما عن رومانسية خلاقة تعشقها. وكانت أمها ضحية اندفاع والدها نحو الحياة، أما هي فكانت ضحية اندفاع زوجها للحياة. رجلان وامرأتان. الفرق بينها وبين أمها أن أمها رمت أسلحتها واستسلمت لقدر يفرض على المرأة في مجتمعاتنا الاستسلام. أما هي فما يعذبها أنها اضطرت للاستسلام خارجياً، في داخلها بقيت تلك المتمردة الباحثة عن نوع آخر من الحياة.
تعترف أمل: «أنا الإنسانة الحزينة التي تعجز عن أن تكون واقعية». هي في الحقيقة لا تعجز وإنما لا ترغب في أن تكون واقعية، لأنها بذلك تستسلم تماماً كأمها وتتحول إلى رقم جديد في عداد نساء العرب المضطهدات. في عمق ذاتها تعيش أمل مشكلة اللامنتمي الكبرى، فهي تحسد المرأة العادية، أمها، على استسلاميتها التي تعطيها الراحة والتسليم، لكنها في الوقت نفسه تكره هذه الشخصية غير المتمردة. تقول أمل عن أمها: «كانت امرأة سخية حتى في موتها، ليلة واحدة وقضت» وتقول أيضاً: «كان لديها شيء أفقده.. دفق من الحب الدافئ الساكن المفعم بالثقة والإيمان بأن الحياة لن تخذلها، وكان لديها حب للعطاء دون مقابل».
وتكتب: «قد يكون هذا الرضى نعمة من الله أعطاها إياها كي يعفيها من ألم الأنثى». لكن المتمردة أمل لا تريد هذه «النعمة» وإن حسدت من يملكها. إنها تكره هذا الذي تحبه في أمها: «كنت أحبها لنفسها وأكره إنكارها لذاتها، أعشق روحها الطاهرة وأمقت السلبية في تصرفاتها»..
لو أن أمل كانت رجلاً في مجتمع لا يسمح إلا للرجال بالعبور لأبدعت، لكنها امرأة في مجتمع ذكوري، لا مجال أمامها سوى أن تكتب كي تحقق ذاتها. شخوص همنغواي نجحت في تحويل تمردها إلى حياة سواء إبان الحرب العالمية الأولى أو الحرب الأهلية الإسبانية أو على ثلوج كلمنجارو، لكن أمل أقرب إلى متمرد ألبير كامو، ذلك «الغريب» الذي يقتله الواقع، لكنه في شقائه «يبقى سعيداً» ما دام لا يستسلم.
ما بين «واقعها» الذي تعيش كزوجة وأم و»ما فوق واقعها» المدفون في نفسها باعتبارها إنساناً لا منتمياً تحاول أمل خلق تركيب في روايتها يغتصب العلاقة المتنافرة بين «واقع» و»ما فوقه»، بين ذات إنسانية متمردة، خلاقة، وواقع مفروض بقوة الثقافة الاجتماعية.
اغتصاب الواقع عبر الزمن والمكان
إنه الانتقال الهادئ، غير الملحوظ، من زمن إلى زمن، من وجودها في غرفة والدها وهي في العقد السادس من عمرها إلى طفولتها وشبابها والسنوات الأولى من زواجها. إن القفز فوق فاصل الزمن يعتبر من أهم أدوات اغتصاب الواقع، وهو ما برع به، على سبيل المثال لا الحصر، حيدر حيدر في رائعته «وليمة لأعشاب البحر». أما تخطي المكان فهو أيضاً نوع من أنواع الاغتصاب الأدبي الجميل. أمل تتسلل دون أن يشعر القارئ من غرفة والدها المريض إلى عيادة الطبيب الذي يرعى صمتها إلى مطاعم بيروت ودمشق وشوارعهما وصالات الرقص والمتعة فيهما.
تجنبت أمل السرد الممل. كثير من القصص يستطيع القارئ أن يتخطى منها صفحات دون قراءة ولا يشعر بأنه فقد شيئاً في السرد. أما «ومضات» فعليك أن تقرأ كل كلمة حتى تستطيع مجاراة الكاتبة في اغتصابها للزمان والمكان.