لقد بدا أن هذا السؤال في العقود الأخيرة مؤشراً على نهاية حقبة ثقافية سمحت للمسرح أن يكون من المعطيات والمكونات الرئيسة في الحياة الثقافية. ويرى بعض المفكرين أن تلك الحقبة قد مضت ولن تتكرر.
فالمسرح، كما يقول المفكر الفرنسي جين بودرلير، قد تغيرت وضعيته من «كونه فناً رئيساً في الحداثة الأوربية إلى كونه فناً هامشياً في مجتمع ما بعد الحداثة، حيث كل شيء يتمسرح. لكن التمسرح هنا يتجسد عبر الوسائط التقنية من تلفزيون وكمبيوتر ووسائط تفاعلية أخرى».
وفي هذا السياق نرى أن وضعية المسرح في العالم عموماً تأثرت بالتحولات السياسية والثقافية الكبرى التي طبعت أواخر القرن الماضي. وفي مواجهة هذه التحولات العميقة كان على المسرحيين في العالم إعادة طرح أسئلة المسرح بصيغ مغايرة والبحث عن تلك الحساسية الجديدة التي يمكن من خلالها استكشاف فضاءات جديدة يمكن للمسرح أن يكون فيها راهناً بالمعنى الجمالي وبالمعنى السياسي. كان هناك وعي بوجود مشكلة تواجه المسرح وبوجود عناصر جديدة في الواقع تفرض تغييراً في طبيعة وآلية علاقة المسرح بجمهوره، لكن لم يتم تكريس مصطلح الأزمة كتوصيف نهائي لمجموعة المشاكل التي نتجت عن ثقافة عصر جديد.
ما حصل أن بعض المسرحيين في أوربا كانت لديهم الجرأة على إعادة طرح أسئلة المسرح بصيغ جديدة من خلال تجارب امتدت في عمق الحياة الثقافية والسياسية للمجتمع. ولعل من أهم الأسئلة التي طرحت في السنوات الأخيرة في أوروبا في هذا السياق هو كيف للمسرح أن يقدم تجربة جمالية مغايرة للسائد وأن يطرح بنفس الوقت قضايا تهم الشريحة الأوسع من الناس من وجهة نظر خاصة يتميز بها المسرح عن غيره من الفنون ووسائل الاتصال؟
كان النص المسرحي في هذا السياق دائماً موضع إشكال من حيث تصنيفه كنوع أدبي. نشأت هذه الإشكالية عن كون النص المسرحي يكتب من أجل تجسيده على المسرح وبهذا يكون مكوناً من عملية فنية جمالية متعددة المستويات وليس بنية جمالية أو أدبية قائمة بذاتها.
رغم هذه الإشكالية التي عبرت عن نفسها في التنظيرات المسرحية، فإن الدراما بقيت إنتاجاً أدبياً يتميز عن غيره من الأنواع الأدبية من حيث الأسلوبية، البنية وطريقة القراءة.
معظم النظريات التي تناولت النص الدرامي سعت في الحقيقة إلى تكريس طريقة لقراءة هذا النص. ورغم الاختلاف والتباين بين تلك النظريات إلا أنها انطلقت جميعها من كون النص الدرامي هو في الأساس لغة. غير أن تجربة قراءة النص الدرامي لا يمكن أن تتحقق على المستوى اللغوي فقط بل أنها تتطلب من القارئ خبرة مسرحية من نوع ما. يعود ذلك إلى أن عملية قراءة الدراما تحيل إلى مرجع خارج النص وهو خشبة المسرح. وقد أكدت العديد من الدراسات أن الدلالة والمعنى في الدراما لا تتولد عن العلامات اللغوية فقط بل عن عملية إضافية خاصة بالدراما وهي تخيل النص ممسرحاً. وعملية التخيل هذه تخضع لشروط علاقة القارئ بالمسرح وبشرطه التاريخي. ومن هنا يمكن القول إن عملية القراءة ذاتها تتأثر بالصيغ والأساليب المسرحية السائدة في فترة ما.
قراءة النص الدرامي في هذا السياق هي قراءة في جملة من العلاقات المعقدة ضمن النص. المستوى الأول من العلاقات هو الشكل الخارجي للنص. هناك كتلتين لغويتين متمايزتين: الحوار وإرشادات وتعليقات المؤلف السردية. أما المستوى الثاني فهو جملة العلاقات البنيوية التي تحددها شروط الكتابة المسرحية في عصر ما وفق الأعراف والحساسيات السائدة. وما يميز هذا المستوى هو أنه يرتبط بشكل جوهري بالخبرة والثقافة المسرحية للقارئ، وهنا تحديداً يمكن تمييز أحد النقاط التي تتقاطع فيها الخصوصية اللغوية-الأدبية للنص الدرامي مع مرجعيته الحتمية، أي تجربة العرض المسرحي.
لقد أشارت بعض الدراسات البنيوية والسيميائية إلى أن الأسلوب الذي يتبعه الكاتب في تقطيع نصه له دلالات متعددة. فعندما يعمد النص إلى مخالفة التقليد أو المتوقع، فهو يحول الانتباه إلى الخصائص البنيوية وطريقة تشكل النص الدرامي.. مثال على ذلك نص في انتظار غودو لصموئيل بيكيت. يقطع بيكيت نصه إلى فصلين. من الناحية البنيوية يمكن أن نتوقع بشكل مسبق أن الفصل الأول يعرض لتطور حبكة وصراع يصل في نهاية الفصل إلى الذروة بينما تتم حل العقدة وانحدار خط الصراع في الفصل الثاني وصولاً إلى نهاية أو حل. غير أن ما يحدث في النص هو أن بيكيت يقدم لنا بنية دائرية حيث لا يتطور أي حدث درامي مما يخيب توقعاتنا. في نص بيكيت يلعب كل فصل كمرآة للفصل الآخر بحيث كل فصل يستمد شكله ومنطقه من الآخر.
تعتبر هذه القراءة لنص بيكيت الشهير أحد النماذج الكلاسيكية في التأكيد على التجربة الحديثة في الكتابة المسرحية التي أعادت توظيف العناصر البنيوية الخارجية للنص التقليدي في سياق دلالي جديد ومغاير. وفي هذه العملية ينجز النص الحديث قراءة تفكيكية للنموذج القديم من جهة، ويعيد للشكل اعتباره كمكون من مكونات المعنى، وليس مجرد حامل له. ولقد قامت تجربة الحداثة في الكتابة المسرحية الأوربية على هاجس القطع المعرفي مع النماذج الدرامية التقليدية وكانت شغوفة منذ ألفرد جاري ولويجي بيرندللو بنزعة تدمير ثقافة القالب الدرامي التي شكلت عبر قرون من عمر الثقافة المسرحية خلفية عامة وموحدة لكل التراث المسرحي.
وفي هذا السياق يمكننا العودة إلى فكرة علاقة النص الدرامي كبنية لغوية بالتجربة المسرحية للقارئ، أي بثقافة العرض المسرحي في الزمان والمكان. ذلك أن فكرة القالب المسرحي الذي يفرض نفسه على شكل شروط وأعراف للكتابة لا يمكن لها أن تتحقق عملياً إلا عبر تراكم الخبرات المسرحية. وبالنسبة إلى القارئ تحديداً، فإن عملية إدراكه للقالب أو للنموذج لا يمكن أن تتكامل إلا عبر العملية التخييلية التي يربط فيها بين لغة النص وبين إمكانيات واحتمالات تجسد تلك اللغة على الخشبة.
وفي واحد من المحاور الجديدة في الدراسات المسرحية، يركز النقاد المعاصرون على تطورات وإنجازات الكتابة المسرحية المعاصرة. ووفق المقاربات الجديدة لواقع الكتابة المسرحية عموماً يرى الكثيرون أن هناك تراجعاً ملحوظاً في قدرة الكتابة المسرحيين المعاصرين على إنتاج بنى جمالية جديدة قادرة على التعبير عن حساسية متمايزة أو عن لغة جديدة، كما هو الحال في الرواية المعاصرة مثلاً. ويعود السبب في ذلك وفق العديد من الدراسات إلى التراجع في مركزية ثقافة العرض المسرحي. فمنذ أن تراجعت الظاهرة المسرحية إلى هامش الحياة الثقافية في العالم عموماً نتيجة لسيطرة ثقافة الصورة، حدث خلل في تلك العلاقة بين اللغة الدرامية وتجربة العرض المسرحي. إن هذه العلاقة القائمة على تجربة القارئ في التخييل التي تهدف إلى إنجاز قراءة النص قد أفقدت الكاتب المسرحي الكثير من مساحات التجريب والاكتشاف.