كان ألان بلوم قد هاجم بشدة النظام التعليمي الأمريكي، كونه تسبب في إيقاع الضرر بالديمقراطية وإفقار الروح التعليمية لدى الطلاب، واعتبر من المفارقة أن الانفتاح المفرط والنسبية في تعليم الحقائق قادا إلى إضعاف التفكير النقدي وإعاقة وجهات النظر المعرّفة للثقافات، ما أدى بالتالي إلى إغلاق أو انسداد العقل الأمريكي.
ورأى بلوم في كتابه «الحركات الحديثة في الفلسفة والإنسانيات» أن انصراف أساتذة الفلسفة إلى تحليلات اللغة العادية وإلى الوضعية المنطقية، أضعف من أهمية أنسنة القضايا الأخلاقية والسياسية وأخفق في شحذ اهتمامات الطلبة. وفي مجال الأدب وجد بلوم أن انشغال أساتذة الأدب في التفكيك قاد إلى تكريس اللاعقلانية والشك في معايير الحقيقة، وبالتالي أدى إلى انحلال الضرورات الأخلاقية التي يتم إبلاغها عبر فلسفة حقيقية يمكنها المساهمة في صقل وتوسيع عقول المعنيين بتلك الضرورات.
لقد ذهب بلوم في نقده إلى ماوراء التعليم الجامعي، ليتناول الأزمات العامة في المجتمع الأمريكي، فهو قد رسم مقارنة بين الولايات المتحدة وجمهورية «ويمر» الألمانية. الفلسفة الليبرالية الحديثة، حسب قوله، تجسدت في أفكار التنوير لجون لوك، ذلك أن فكرة المجتمع العادل الذي بإمكانه الارتكاز على المصلحة الذاتية لوحدها، وما رافق ذلك من ظهور للنسبية في التفكير الأمريكي، هو الذي قاد إلى هذه الكوارث.
الكاتبان ستراوس وبلوم وجدا في الفلسفة اليونانية القديمة وخاصة في جمهورية أفلاطون شيئاً ما لم يلاحظه إلا نفر قليل وهو التهكم irony. وإذا كان كارل بوبر قد هاجم بحماس في كتابه «المجتمع المنفتح وأعداؤه» رؤية أفلاطون للمجتمع الخاضع لحكم الملوك الفلاسفة كصورة مرعبة للكذب والاضطهاد، فإن ستراوس وبلوم قرآا بالكامل ذلك الجزء الشهير من الجمهورية الذي يُطلق عليه «المدينة العادلة في خطاب»the just city in speech، واعتبراه كما لو أنه كُتب بشيء من الإيحاء والغمز. ما قصده أفلاطون في الواقع، حسب قولهما، ليس لكي يقدم مخططاً لمجتمع حقيقي يحكمه الفلاسفة، بل أن ما قصده هو تقديم نوع من الممارسة الفكرية للشباب المتعلمين الجالسين حول سقراط، كي يدفعهم للنظر في المقترحات الطوباوية الحرة التي كان يؤمن بها أستاذهم.
هذا الاختلاف، ستنطلق منه وجهات نظر كبيرة وواسعة. يرى بوبر أن أفلاطون كان مجنوناً بالسلطة: فهو حينما ترك التعليم المهذب لسيده سقراط، يكون قد ابتعد عن ليبرالية أثينا الديمقراطية. يرى بوبر أن العودة إلى لهذه الليبرالية هي وحدها من يضمن السلام والتقدم للمجتمع المنفتح ولمؤسساته الديمقراطية.
ونظراً لمجاورة هذه الفكرة للتاريخية historicism ذلك جعل بوبر يكرهها بشدة، كونه رأى صعوبة انسجام هذه الرؤية مع ادعاءات الفيلسوف بأن التاريخ لا يحكم أبداً وفق نماذج معروفة سلفاً وليس له أي نهاية مقررة، لأن الاعتقاد بهذه الرؤية سيكون دعماً فلسفياً للتوتاليتاريا. بمعنى آخر، أن بوبر رفض التاريخية لأن التاريخية رفضت إمكانية التغيير.
أما ستراوس فقد ولد من عائلة ارثودكسية بروسية، وله ازدراء مماثل للتاريخية، لكنه لم يؤمن كما فعل بوبر في المزايا الحتمية للتقدم. إذا كان أحدهما قرأ أفلاطون واعتبره دعوة للإصلاح السياسي، فإن الآخر انحرف بعيداً عن نفس الخطاب وبشعور شديد التحفظ. وفي تلخيص آخر لأفكار ستراوس نجد في كتاب «Xenophon’s Hiero» يؤكد المؤرخ «مارك ليلا» تماماً جوهر الفكرة. هو يذكر أن ستراوس كتب قائلاً «إن الفلسفة يجب أن تكون دائماً على وعي بأخطار الاستبداد، لأن الأخير يشكل تهديداً لكل من الأخلاقية السياسية وللحياة الفلسفية. إنها يجب أن تدرك ما يكفي حول السياسة كي تدافع عن استقلاليتها دون الوقوع في وهم االقدرة على تشكيل العالم السياسي طبقاً لتصوراتها الخاصة».
ماذا إذاً سيعمل الفيلسوف السياسي عندما ينظر إلى دوره الأساس كحارس؟ أستاذ الفلسفة في جامعة برنستن ألكسندر نيهاماس Alexander Nehamas، يرى في نقده الشديد «لانغلاق العقل الأمريكي»، أن حل بلوم احتوى القليل ولكن مع الكثير من الانحناء للسلطة. كتب نيهاماس أن «بلوم» يصف الفلاسفة الكلاسيك الكبار بالأرستقراطيين لسببين؛ الأول لأنهم اعتقدوا أن العقل الذي كرس الفلاسفة أنفسهم له هو وحده يجب أن يحكم، وثانياً بما أن الفلاسفة أدركوا أنهم لن يحكموا، هم عملوا ائتلافاً مع الأثرياء، لأن «مثل هؤلاء الرجال يُحتمل جداً أن يفهموا شرف الفلسفة كغاية بذاتها، إن لم يستوعبوها. وبعبارة أخرى، هم لديهم النقود والوقت اللازمان لدراسة الفلسفة والاهتمام بها بشكل جدي».
هذه المقتطفات، المأخوذه من «انغلاق العقل الأمريكي»، تجعل من الصعب الدفاع عن الاتهامات الموجهة إلى بلوم بالنخبوية. ولا كذلك عن حبه لجماليات الحياة، حيث أن رواية «Ravelstein» وهي آخر وأجمل روايات «Saul Bellow» نجد فيها صورة مستترة لصداقة المؤلف مع بلوم. «رافلستاين هي رواية كبيرة، متوهجة، وغير متقنة أبداً»، ذلك ما ذكره الناقد «جيمس وود» في نقده للرواية. «هو يحب الملابس الأنيقة، جاكيتات لانفين الفرنسية، أربطة زيكان الإيطالية، لكنه يحب تلويثها بالطعام. المضيفون يعرفون كيف يضعون الجريدة تحت كرسي رافلستاين «شخصية في القصة تحمل نفس عنوان الرواية» عند حفل العشاء. في البيت، هو يتجول بروبه الحريري وسجائره المتقدة. غرفته ممتلئة بالزجاجيات الجميلة والزخارف الفضية، والشراشف والوسائد الايطالية والفرنسية الناعمة وآلاف أشرطة السي دي. هو يتكئ على أريكة جلدية سوداء مستمعاً إلى موسيقى الباروك... هذا هو ألان بلوم كما عرفه أصدقاؤه».
ربما البعض يتصور بلوم كطفل لعائلة برجوازية حاول جاهداً إخفاء حجمه المألوف بإدعاء مكانته – سلوكاً وفكراً- بين فلاسفة الأرستقراط الخالدين. لكن ذلك سيكون حكماً غير عادل وسنخطئ تماماً الرجل وعمله.
لم يكن بلوم مهتماً أبداً ولا هو جزء من الطيف السياسي الفقيرالذي يتنقل من الديمقراطية والمساواة إلى الإمبريالية والسيطرة. آمن بلوم بالمستوى العالي للحياة، كما تجسدت في بنايات جامعة شيكاغو، التي تبنّت بوضوح أهدافاً عليا. هو أدرك أن النص هو دائماً معلّم، وأن الرجل الحكيم هو دائماً معاصر بصرف النظر عن الظروف التاريخية التي شكلت كل منهما. أدرك أن الناس المهتمين دائماً في الأفكار سوف لن يتولوا أبداً مسؤولية مسار الأحداث الإنسانية، ولذلك يقبلون بالمهمة الثانوية – مهمة تعليم الحكمة- مع أنها لا تقل أهمية.
هذه المهمة، حسب التعريف، ليست لكل شخص، وكان بلوم يتحدث دائماً بارتياح عن القلة وذوي الإمكانية الذين يستمرون في التقدم بهدوء نحو حديقة الإنسانية بينما بقية المخلوقات تنحدر نحو الأسفل ومع كثير من الفظاظة، ولهذا سمي نخبوياً. ولكن إدراكه لمهمته الخاصة فيه القليل من الإقصائية. إن فكرة بلوم عن الثقافة تدور حول تبنّي التعليم ورفض التحيز. المطلوب هو التعامل الخلاق غير المعقد مع كل نص دون أي هياكل فكرية مسبقة، مطلوب التحقق فقط، كما فعل سقراط، ما إذا كان النص جيداً أم سيئاً، مفيداً أم ضاراً. عندما نفعل ذلك، وفقاً لبلوم، ستنهار الحدود.
لم يكن بلوم وحيداً في إيمانه هذا. بعد ما يقارب ساعة أو أكثر من الحديث في إحدى صالات الاستراحة في جامعة هارفرد، متنقلاً بين التلميحات لليونانيين القدماء والنقد المعاصر، بدأ حماسه بالتراجع. عاد إلى الصالة مرة أخرى، عارضاً اقتباساً مطولاً من W.E.B. Du Bois. : «أنا أجلس مع شكسبير.....» كتب Du Bois في مقالة له بعنوان «أرواح السود العاديين» The Souls of Black Folk قائلاً: «عبر الخط الملون تحركت جنباً إلى جنب مع الكاتبين بلزاك ودوماس Balzac and Dumas، حيث الرجال المبتسمون والنساء البهيات يتزلجون في صالات مذهبة. وأنا أخرج من كهوف المساء التي تتأرجح بين أذرع الأرض القوية والنجوم المزركشة، أستعيد أرسطو وأوريلوس وما أرغبهُ من روح، كلهم جاؤوا بلطف سخي دون ازدراء أو إذلال. لذلك فإني مع انشدادي للحقيقة، أقيم فوق الحُجب».
ذلك ما أقام فيه بلوم أيضاً. ونحن مدينون له لنتذكره بهذه الطريقة.