تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


طقوس اليوم الأول والأخير

رسم بالكلمات
الأثنين 7-3-2011م
موسى الزعيم

تتدحرج كتل الغيوم من أعلى القمة باتجاه بطن الوادي وفي ذلك الصباح الندي..

يستيقظ الرجل النحيل الأشيب، يسقي أصص النعناع والحبق، ويعطم الأرانب والحمام، تصحو زوجته على وقع حركته في البيت، تراه في نشاط غير معهود يعد فنجان قهوته، ويحلق ذقنه، ثم يرتدي بذته في اهتمام لم تلحظه منذ زمن، يرفع صوت المذياع، يترنح مع شدو فيروز...‏

( ورقو الأصفر شهر أيلول..)‏

تصيح الزوجة: اعقل يا رجل إلى أين تذهب؟‏

-- يجيبها: أنت تعلمين.‏

- يارجل صار لك خمس سنوات متقاعداً ألا تنهي حلمك اليتيم هذا؟‏

-- وإن يكن الا تعلمين أن اليوم الأول من المدرسة يوقظني رغماً عني، وأن للأيام طعماً نحسه يمتزج مع طعامنا وشرابنا...‏

بين الفينة والأخرى كان ينظر إلى الشارع، يرقب جموع التلاميذ يرتدون ملابسهم الجديدة فيبتسم يرشف ما تبقى من قهوته ويتجه إلى زوجته قائلاً:‏

- ماذا ستعدين لنا من غذاء؟‏

-- تصيح بحزن: اعقل يارجل(كرمى للنبي) متى أنتهي من تخيلاتك هذه، في كل سنة ولمثل هذا اليوم أحسب هذا الحساب.‏

ياإبراهيم الأولاد تخرجوا من الجامعة وتزوجوا وكل يبحث عن رزقه.‏

يجيبها.. بعد أن يسوي نظارته:‏

-- ياامرأة أحس أن شيئاً في هذا اليوم بالذات يقلعني من الفراش، أو أنني مسكون بشيء ما لا أعرفه لكني أحسه يجري مع دمي ويفور؟؟ يتصاعد فيًّ فلا أستطيع كبحه، إلا هناك ! كيف لي أن أرى جموع التلاميذ والمعلمين يقصدون مدارسهم وأنسى هكذا فجأة أربعين سنة أمضيتها في التعليم، ألا تعتقدين أن أحداً منهم يحتاج إلي..؟!‏

ينهي كلامه وهو يهم بالخروج تناديه الزوجة لا تنسى العكاز، وهي تعمز في إشارة ذات معنى.‏

يأتي صوته محتداً وقد عبر الباب:‏

--عيب يا أم محمود.. عيب مدرسة وعكازة، أتظنين أنني أصبحت عجوزاً... أعتقد أنك وحدك من يعرف جيداً أنني مازلت شاباً.‏

تفرك الزوجة كفيها وتحوقل وهي تعلم أنه سوف يعود إليها بعد ساعة وقد أنجز مهمته أو أنه- كما يقول- تخلص من النمل الذي يسري في جسده وهدأ فوران روحه.‏

-2-‏

اعتاد الأستاذ إبراهيم معلم المدرسة أن يذهب في أول يوم من العام الدراسي إلى مدرسته تراه وهو يعبر ساحة المدرسة، يمسح بيده شعر هذا التلميذ وتسمعه بين الصفوف يقول للصغار: يا بني لا تجلس على المقعد قبل أن تمسحه..أنت..أنت لا تضع كتبك على الأرض، ثم يستقبله الأستاذ مصطفى مدير المدرسة مهللاً فرحاً، يسأله عن صحته، ويعرفه على من جاء من المعلمين الجدد، يتناقشان في بعض القضايا وبعد ذلك يقدم له أبو معتز كأس الشاي، يتناوله بتلذذ، ويغادر مصحوباً بهالة من الفرح لا حد لها.‏

-3-‏

يصل الأستاذ إبراهيم إلى المدرسة مبكراً، يعبر ساحتها، يؤدي طقوسه المعتادة، ثم يدخل غرفة الإدارة، يلقي التحية ويتبعهابكل عام وأنتم بخير.‏

يسلم على الجميع إلا أنه يشعر أن شيئاً انقبض في داخله، يسأل عن الأستاذ مصطفى فيجيبه الرجل الجالس وراء الطاولة:‏

- نقل إلى المديرية.‏

- ومدرس التاريخ حسن؟!‏

قدم استقالته وهو يعمل الآن سائقاً‏

- وأبو معتز؟! تقاعد لأسباب صحية.‏

وجد أن ما سمعه يكفي ويمنعه من السؤال عن البقية لأنهم كانوا آخر رفاق دربه الطويل.‏

يجول الأستاذ إبراهيم نظره في الغرفة، يجدها باهتة رغم الطلاء اللامع والأثاث الجديد، لعله الزمن اللولبي.. يدور في حلبة الصمت، يشهد حنيناً آسراً إلى الماضي بكل تفاصيله، يعبر الشريط أفق مخيلته، يغرقه في دوامة الذكريات، تبهره لوحات الشعارات الزاهية المتناثر على الجدران وبأشكال مختلفة... هنا خلف الطاولة كانت خارطة للوطن الكبير لا يوجد داخلها خطوط زرق.. شرايين تغذي الجسد الواحد، وبجانب الباب لوحة كتب عليها( المعلم الذي لا يحسن تعليم تلاميذه يضع رقبة الأمة في المقصلة).‏

وخمن الأستاذ أن الخريطة واللوحة والأثاث وذكرياته مع أصدقائه صارت في المستودع أو في (جب الفأر) بين الكراسي المخلعة والغبار، وينتفض عندما تعود إلى ذاكرته صورة جب الفأر، يخاطب نفسه: نعم جاءت يوم بت فيه أنت من يخاف من جب الفأر!! تلح عليه صورة فأر يقرض كل ما وضع في المستودع، تنداح الأصوات الخافتة والروائح العفنة يتبعه نشيش الأفكار ورجفان القلب.‏

ينتبه مذعوراً يمسح وجهه ويتململ في مقعده يطول انتظاره لم يسأله أحد عن شيء، المدير الجديد مشغول بترتيب مكتبه وتمرين كرسيه على الدوران، يميناً..يساراً،أخيراً يسأله:‏

- هل من خدمة نقدمها لك ياعم؟‏

-- لا.. لا شكراً فقد كنت أسأل عن الأستاذ مصطفى، ثم يهم بالخروج لم يستوقفه أحد، يشعر أنه ينزلق من دبق الوقت وحميم الصمت الآسن.‏

- السلام عليكم قالها وانطلق، تناهى إلى سمعه شيء من اللغط، أحس أنه موجة له لا يدري لم سيطرت عليه فكرة أنه خرف، شعر أن الصوت خرج من ذاته فسمعه بقلبه وأذنه.‏

يلفه صمت الطريق تبدو خطواته أكثر تثاقلاً يطول الدرب يتعرج يزداد عند الخطوط في جبهته تسرع الغيمات بالتدحرج نحو الوادي، يعود سيل الذكريات، يتذكر آلام قدميه، وبحة صوته.‏

يصل البيت يتجه صوب المكتبة يتناول حقيبته السوداء من فوق أحد الرفوف، يبسط كفيه تحتها وفي هيبة المحارب يتقدم خطوتين يرفع الحقيبة ليضعها فوق الخزانة ثم يستند إلى عكازه إلى أن يصل إلى السرير، ويتهالك عليه تلفه غيمة من الحزن والألم فيما كانت زوجته ترقبه مبهوته.‏

يوقظها جرس الباب يدخل سامر فيملأ البيت ضجة وحياة يصيح وهو يركض باتجاه جده..‏

جدي .. جدي انظر... انظر ما أجمل هذه الحقيبة التي اشتراها لي والدي انظر يا جدي إلى هذه الكتب ألا تساعدني في حل وظائفي! عندها يحتضن الأستاذ إبراهيم حفيده يقبله ويلفه في عناق حار تترقرق من عينيه دمعة تراها الزوجة فتصبح مستدركة: هيا لنشرب الشاي معاً ثم تلتفت إلى سامر قائلة: من اليوم سوف يبدأ جدك.. أقصد الأستاذ إبراهيم الدرس الأول معك .‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية