أصغي السمع إلى أغنية صادرة من البعيد.. وقد حمل الصدى ترددات ألحانها إلى مسامعي..كل ما فكرت فيه في ذلك الوقت المسائي أن ترنيمات نغماتها الناعمة تُشابه إلى حد كبير ألحان روحي الموشحة بالضجر.. باغتني سؤال وراء سؤال:
إلى أين تمضي بي أيها القدر ؟ ولماذا كلما نظرت إلى السماء لا أرى سوى لونها الحالك القاتم الموحي بالضباب ؟ ولماذا كلما جلت بنظري إلى الأفق لا أشاهد إلا الإصفرار المفعم بالهموم والمتاعب ؟
الدراسة من جهة.. وماذا بعد الدراسة من جهة أخرى؟ والتي ما زال ينتظرني منها ثلاث سنوات وربما أكثر.. هل سأستطيع إيجاد عمل مناسب بعدها..؟وكيف سأجده الآن وأنا بأمس الحاجة إليه..وليس هذا كل شيء فالعمر يدور بنا ولا ندري كيف يُسرق منا.. وأي فرصة قد تتاح لنا لإطلاق مشاعرنا إلى الغيم.. وأين نحن ممن نحب أومن الحب ذاته ؟
أسرح بلحظة في عالم الخيال الواسع.. أغيب عن الواقع تماماً محلقة في عالم الأحلام.. استغرق في تفكير عميق....
فجأة تنفتح أمامي بوابة من نور.. من عمق الذاكرة.. كأنه شريط سينمائي يدور بي ويدور يفتح لي نافذة تلو أخرى.. ما بين الحلم والواقع ووجع اليقظة..
لا لن أتابع..قلت في نفسي: حاضري لا يسرّ.. فأين أنت أيها الماضي العابق بالبساطة والطيبة والأحلام الوردية..والهموم التي تنحصر في تفاصيل صغيرة..؟
بلمح البصر عدت طالبة مراهقة على مقاعد الدراسة..أركض أسرع الخطى.. زوادتي طفولتي.. وطموح كبير يحثني لتحقيق أشياء كثيرة بوقت قصير..
أستعجل اللحظة واليوم والشهر.. فما عادت زوادتي الصغيرة المرتبة في حقيبتي المدرسية الملونة تكفيني..ففي الخارج صوت آخر يشدني.. يسحبني من يدي لأكون هناك على أعتاب عالم الكبار..فلا صبر لي على الغرق في رتابة يوم.. وانتظار آخر..فسافر بي أيها اليوم إلى المستقبل البعيد.. فإذا بقيت هنا سأحتاج سنين طويلة لتحقيق أحلامي..
وقبل أن يرتدّ إليّ طرفي.. فتحت أمامي نافذة أخرى من عمق الزمن.. وجدت نفسي وبلحظة واحدة.. عجوزاً هرمة بيضاء الشعر..واهنة العظم.. مترهلة الجلد والجسم..سعالي صديقي.. مرضي رفيقي في الليالي السوداء..أشرب قهوة صباحي مع ألم جسدي المنهك..وحيدة إلا من أطباء يغدون ويروحون..و أكياس من الأدوية المتنوعة حيث كادت تحاصرني تخنقني..حالة نفسية مزرية تجتاحني..أتحسر على الأيام الماضية وأشغل ذاكرتي بالذكريات السالفة..
أتعجّل النهاية كي أرتاح وأغادر هذه الدنيا الفانية حيث الراحة الأبدية.
أيقظتني تلك الأغنية التي باغتت بلحظة أسماعي.. إلا أنها هذه المرة عادت بلون آخر لا تشابه الضباب ولا الرماد..
نظرت أمامي وفي كل الاتجاهات..فنجان قهوتي قد برد.. وكتابي الجامعي مازال منتظراً قلب الصفحة التالية..فقد طال انتظاره لي.. إلا أنني وقبل أن أقلّب صفحة كتابي أغلقت شريط الخيال المتأرجح ما بين اللحظة والغد البعيد..وتساءلت لماذا نحن مسكونون بالماضي..والمستقبل..ونتناسى الواقع.. دون اكتراث منا بالاستمتاع بتفاصيله الصغيرة والتي تشكل الحياة..
قد يكون الماضي أثيراً.. قد نحنّ إليه..نحنّ إلى ذكرياتنا.. لكن يبقى الحاضر أحلى..وقد يكون المستقبل جميلاً رائعاً إلا إن الواقع أجمل وأروع.. لذلك اخترت الواقع بحلوه ومرّه..بدقائقه وثوانيه.. بأحلامه وانكساراته.. آماله وآلامه.. بأفراحه وأتراحه.. فدعني أعش ملامحه كما هو..
الزمن لن يتوقف مطلقاً.. والماضي لن يعود أبداً.. وستبقى ذكرى الماضي حية في أنفسنا.. والمستقبل سيأتي في موعده تماماً.. والزمن لن يقفز إلا في عالم الخيال الواسع.
هتفت في سري وأنا ألملم أشيائي المبعثرة من على شرفة غرفتي بعدما برد طقس الخارج..وتلّون بالليل: إن هذه الحياة رغم كل شيء لجديرة أن تُعاش.