الاتفاق النــووي
فقد توصلت الدول الاستعمارية الغربية وهي بريطانيا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة بالإضافة إلى الأصدقاء روسيا والصين إلى اتفاق مع إيران حول برنامجها النووي السلمي بتاريخ 14/تموز/2015 بعد حوالي عقد من المشادات والتوترات والتهديدات والحصار والمقاطعة، وفي 16/1/2016 دخل الاتفاق حيز التنفيذ.
وقد أجمعت مختلف وسائل الإعلام على أن الاتفاق تاريخي، وقد خفف كثيرا من التوتر الذي كان يخيم على المنطقة العربية والإسلامية وأبعد شبح الحرب التي كان يتخوف منها الجميع شرقا وغربا، وكانت البهجة واضحة والارتياح يعم الجميع، اما في المنطقة العربية والإسلامية، فهناك من عبر عن ابتهاجه بالاتفاق وهناك من عبر عن غضبه واستيائه !!...
عموماً فقد خرجت أطراف التفاوض المختلفة راضية عن النتائج، رغم أن أي طرف لم يحقق نجاحاً كاملاً ولا فشلاً كاملاً، أنجز كل طرف شيئا مقابل تقديم تنازلات، ونجح الطرفان في تجنب الحرب التي كان يمكن أن تكون مدمرة للمنطقة العربية والإسلامية فيما لو نشبت، واحتفل كل طرف خطابيا وبالتصريحات الإعلامية على طريقته الخاصة.
قدرات إيران التفاوضية
ذهبت إيران إلى طاولة المفاوضات كندّ للطرف الآخر، وليست مجرد ملحق لطاولة يتناولها الإعلام على أنها طاولة مفاوضات، ذهبت وهي تملك من القوة العسكرية ما يكفي لإقناع الطرف الآخر بأنه لا يستطيع أن ينتصر في أي مواجهة عسكرية ضدها، ذهبت وهي تعرف إمكانياتها الاقتصادية وتعرف كيف يمكنها أن تؤثر في اقتصاد الطرف الآخر وإيقاع خسائر اقتصادية به إن قرر اتخاذ خطوات اقتصادية عقابية.
ذهبت إيران إلى طاولة المفاوضات وهي متمكنة وقادرة معتمدة على قوتها الأخلاقية وعلى قوة شعبها وقدراته العلمية وتماسكه الاجتماعي ومنسوب احترام الإنسان في دولته واستطاعت أن تفرض نفسها على الجو العام للمفاوضات..
فإيران لم تكشف أوراقها دفعة واحدة ولكن عند كل منعطف قدمت بطريقة أو بأخرى معلومة حول قدراتها بإيقاع الأذى بالطرف الآخر إذا حاول الأذى، مثلا كانت تعمد إلى القيام بمناورات عسكرية بالتزامن مع جولات المفاوضات وتكشف ظهور أسلحة جديدة متطورة وذلك لتقديم رسائل واضحة بأن الحرب لن تكون نزهة فيما إذا قرر الغرب ضرب المنشآت النووية الإيرانية، ولذلك انخفض سقف أهل الغرب من التهديد المستمر بضرب إيران وتدمير منشآتها إلى تجنب الحرب وحل الإشكاليات سلمياً.
استعينوا بالكتمان
عملت إيران على الاحتفاظ بأسرار الدولة وقدراتها ومقومات صمودها واستطاعتها على المواجهة. وإنها لمشكلة كبيرة أن ينكشف المفاوض أمام الطرف الآخر لما في ذلك من فرصة كبيرة له لتكييف أوضاعه بطريقة تتناسب مع ما يملك المفاوض الآخر من مقومات البقاء والاستمرار والمواجهة، مع علمها بأن الدولة المخترقة أمنيا، أو المفاوض المكشوف أمام الطرف الآخر لا يتميز بقوة المفاجأة، ولا يستطيع أن يكون ندا على الطاولة، لأن الخصم يبرمج أوضاعه بطريقة تتناسب مع رغباته، وهو يكون أكثر قدرة على اللعب بأوراقه عندما تتوفر لديه معلومات وافية عن الطرف الآخر.
القدرات العلميـــــة
أدركت إيران أن الدول العظيمة (الكبرى)تحرص جدا على التطوير العلمي لأنه أساس التطوير التقني، فلا تتمكن الدول من إحراز تقدم تقني بدون إحراز تقدم علمي، ولن تتمكن من تحقيق الاستقلال الوطني والسيادة الوطنية ما لم تكن مستقلة علمياً وتقنياً، وأن الدول العظيمة هي التي تحرص على صناعة العلماء في مختلف التخصصات وتقدم لهم مختلف التسهيلات لإجراء البحوث العلمية المتنوعة، وهي تحرص أيضا على استقطاب العلماء من مختلف الدول وتقدم لهم الإغراءات من أجل أن يعملوا في جامعاتها ومراكز أبحاثها.
لم تبخل إيران في توظيف الجهود والأموال من أجل الانتقال من دولة مستوردة للمعرفة إلى دولة منتجة لها، لقد أيقنت إيران منذ انتصار ثورتها عام 1979 أنها لا تستطيع مواكبة الركب العلمي العالمي إلا إذا انتهجت التفكير العلمي والمناهج العلمية في عملية بناء الدولة، وهذا ما مكنها من بناء مؤسسات علمية رائدة، ومن تطوير تقنية تمكنها من الاعتماد على نفسها.
قــوة الشعــب
أدركت إيران أيضاً أن قوة الشعب هي أفضل سند يمكن أن يعتمد عليه المفاوض. الشعب الذي يؤمن بقدراته وكرامته يعطي المفاوض قوة دفع بسبب صموده وذكائه في امتصاص الآلام والمحن والأحزان. الشعب الملتزم وطنيا والمؤمن بوطنه والمتماسك اجتماعيا لا يلين أمام الضغوط ولا يسمح بتنازلات على طاولة المفاوضات تؤثر على مستقبل الشعب والأوطان.
فإيران لديها شعب ناهض متمسك بحقوقه ولديه الاستعداد للتضحية من أجل قضاياه، لذا فقد كان تفاوضها يستمد قوته من هذا الشعب كما أن خصمها كان يخشى ذلك الشعب الحي المتماسك والمتمتع بدرجة عالية من الالتزام.
وضوح الـــــهـدف
أدركت إيران الهدف وكان واضحا لديها، ولم يكن بمعزل عن الشعب، فقد شارك الناس في صياغة الأهداف عبر مختلف الوسائل والأطر حتى لا يضل المفاوض الطريق. وهذا ما حرصت عليه إيران أثناء عملية التفاوض بكافة مراحلها. أراد الإيرانيون تجنب الحرب لكن دون التخلي عن برنامجهم النووي، وحصروا المفاوضات في مسألة واحدة فقط وهي البرنامج النووي، ولم يسمحوا للغرب بتوسيع نطاق المفاوضات.
الضعف والاستجداء
ذهبت إيران إلى طاولة المفاوضات ولديها من مصادر القوة ما تستطيع أن تقنع خصمها بأنه لن يستطيع فعل شيء يؤثر سلبا عليها. لأن الخصم عندما يقابل المفاوض الضعيف لن يفاوضه بجدية وإنما يجري مفاوضات من قبيل الإحسان، وهو الذي يقرر ماذا يعطي للضعيف، وهو الذي يقرر مسار التفاوض والمواضيع التي يجب التركيز عليها. في هذه الحالة، يلجأ الضعيف إلى الاستجداء وطلب العون من الآخرين. ويستعيض عن ذلك بالبكاء والعويل والاستنجاد بهيئة الأمم المتحدة وما ينبثق عنها من مؤسسات. ومجرد أن بدأ الضعيف بعملية الاستجداء، يدرك الطرف الآخر أن خصمه قد استسلم.
فإيران لم تحقق مجرد نجاح في المفاوضات مع الغربيين فقط، وإنما صنعت لنفسها مكانة عالمية تجبر الدول العظمى على احترامها. لقد أيقنت إيران منذ البداية أن من لا يستطيع صناعة الحرب لا يستطيع صناعة السلام، فعملت بكل طاقاتها على بناء قواها في مختلف المجالات وكانت مفاوضا صلبا عنيدا وملتزما. ولهذا عمل الذين فاوضوها على حقوقها النووية على كسب ودها مستقبلا ولو على حساب الضعفاء في المنطقة.
بعد الاتفاق
بعد هذه المفاوضات الشاقة التي جمعت أهل الغرب وإيران يتساءل كثيرون حول المستقبل وكيف ستؤول الأمور بالنسبة لأوضاع إيران الداخلية وعلاقاتها مع محيطها ومع العالم. هل ستبقى إيران كما هي مندفعة إلى الأمام في مختلف ميادين الحياة، أم سيصيبها الوهن والتكاسل؟ وهل ستبقى طهران على عهدها للقضية الفلسطينية ومحور المقاومة؟ وكيف ستتحول علاقات إيران مع محيطها العربي والإسلامي؟ هل سيقتنع العرب بالتعاون مع إيران أم سيرتفع درجة تحالفهم مع الصهاينة إلى حد الهجوم على إيران عسكريا؟ ما الذي يخبئه المستقبل؟
لذلك فإن مكانة إيران على المستويين الإقليمي والعالمي ستتحسن بصورة كبيرة لأنها أثبتت حضورها القوي على طاولة المفاوضات، وصمدت بصورة أسطورية أمام أعتى القوى العالمية، واستطاعت أن تنتزع لنفسها حقوقا كان ينكرها الغرب بالأمس
إن أداء إيران التفاوضي وفرض نفسها ندا على طاولة المفاوضات لدول عظمى أكسبها هيبة واحتراما كبيرين، ولا يسع الأمم الأخرى إلا أن تتوقف منحنية أمام إيران التي أرغمت الغرب على ابتلاع وعيده وتهديده وقبول إيران عضوا في النادي النووي العالمي.
شعوب الأرض تأخذ العبرة من طهران الآن ولسان حالها يقول: إن الصبر والصمود يأتيان بنتائج إيجابية، ولا بد للأمم أن تقف ثابتة إن أرادت انتزاع حقوقها من مخالب المتوحشين، إيران مثالا يحتذى به، وعنوانا لكل الثوريين في العالم الذين يحاولون إقامة مجتمع العدالة على المستوى العالمي.
وسيؤثر الإنجاز الإيراني كثيرا على الرأي العام العربي من حيث أن الكراهية التي تحاول أنظمة العربان زرعها بالنفوس ستخف حدتها، وهناك من سيعيد التفكير بلهاثه وراء الفتنة المذهبية. رغم أن إيران تكثف جهودها للقضاء على الفتنة وتحرص على حقوق الشعوب التي يهدرها الحكام.
والتقديرات أن الغرب بدأ يستوعب أن إيران دولة مسؤولة وصاحبة مبادئ، وهي ليست دولة راعية للإرهاب أو إرهابية. بل تبدّى أن أهل الغرب وأعوانهم العربان هم الذين يدعمون الإرهاب وهم الذين يهددون السلم العالمي.
وبعد هذا الإنجاز الكبير لإيران ستنبري أقلام غربية كثيرة في الكتابة عن قدرات إيران التفاوضية والأسباب التي أدت بالغرب إلى شبه انهيار تفاوضي. وبما أن الشركات الغربية ستتحرك فورا نحو إيران للاستثمار فإن احتكاك الغربيين بإيران حكومة وشعبا سيتطور، وسيكتشف أهل الغرب أن إيران ليست شيطانا ولا هي الذي يحمل سلاحه على ظهره يطوف العالم مهددا ومتوعدا كما الولايات المتحدة.
الغرب سيعيد علاقاته مع طهران وفق المعايرر العالمية الاعتيادية. ستفتح السفارات الغربية أبوابها من جديد، وكذلك ستفعل طهران في أوروبا والولايات المتحدة، وسيشهد العالم تعاونا واسعا بين إيران ومختلف الدول الغربية، وذلك العداء المستحكم والتحريض على إيران سيختفيان إلى حد كبير، وستقتصر المعاداة السافرة لطهران على الفئات الصهيونية الداعمة بقوة للكيان الصهيوني. الغرب سينفتح ثقافيا على إيران، وستكون له إطلالة جديدة على إسلام مختلف عن الإسلام الذي يظهر كثيرا على شاشات التلفاز وهو يحرق الناس أو يقطع رؤوسهم أو يسحلهم في الشوارع.
العلاقات مع البلدان العربية
بعد هذه النتائج التفاوضية ستقتنع دول عربية أن أمريكا لن تحارب إيران بالنيابة عنها وستقتنع أن مصلحة أمريكا تكمن في الحوار وعدم الانجرار إلى حروب عبثية غير مضمونة النتائج. فأمام دول عربية خليجية أمران: إما أن تقوي تحالفها مع الكيان الصهيوني للقيام بمغامرة عسكرية مشتركة ضد المنشآت النووية الإيرانية، أو تخلد إلى العقل وتقرر ما قرره السيد الأمريكي وهو أن الصلح سيد الأحكام.
إيران تملك قدرات صاروخية هائلة، وهي قادرة على إفشال أي مغامرة عسكرية ضدها. وإيران ليست معنية بتوتير الأوضاع مع العرب، وقادتها يدعون باستمرار إلى الحوار والتفاهم والعمل معا من أجل خير المنطقة، اما الآخرين يعيشون حالة خوف غير مبرر من طهران. يملكون الكثير من المال لكنهم لا يملكون من مقومات القيادة شيئا.
الوضع الداخلي الإيراني
الشعب الإيراني بنيان مرصوص يشد بعضه شدا فقد صمد خلال الحصار وصبر وتحمل وما يزال صامداً، والآن بإمكانه أن يتنفس الصعداء الآن بسبب رفع العقوبات الاقتصادية والمالية واسترجاع إيران لأرصدتها المجمدة في المؤسسات المالية الغربية. ومن المتوقع أن يرتفع دخل إيران وسينعكس ذلك على مجمل معيشة المواطن الإيراني.