ذلك أنّه عندما يرسم مسارات شخصيّاته، ويخطّط مشاريعه الروائيّة، يعرف كيف يتحكّم بتلك الشخصيّات، وكيف يسيّرها، من دون أن تخرج عن سيطرته أو تتمرّد عليه، أو على نفسها وعلى ما يفترض أن تعبّر عنه من مضامين وأفكار وتوجّهات، وإن كانت تبدو في تأسّسها وتأسيسها أنّها إنّما تنغمس في المتخيّل،
فالصورة التي لا تكون الحقيقة إنّما انعكاس لها، تُصبحها روائيّاً، تُبادِل معها الأدوار في فصول كاملة، حيث تبدأ عمليّة مستمرّة من إنتاج الذوات المتعدّدة، التي تعود إلى جذر واحد، فالواحد نفسه يشتمل على نقيضه، يزدوج، ثمّ قد يتثلّث، أو يتفرّع صوراً وشخصيّات، لتكون هناك مرايا تعكس صوراً متباينة، تضفي أبعاداً جديدة إلى بنية الشخصيّة المركزيّة، بل تُمَركز كلّ صورة، حتّى تبدو وكأنّها الحقيقيّة، والأخرى هي المختلقة، أو المُمَرآة.. كلّ ذلك يعود إلى معرفة دقيقة بالنفس البشريّة، ويتمّ عبر الاشتغال على متعارضات، أو متقابلات، أحدها يستبطن الآخر - آخره، أو يستظهره، يوازيه أو يحاذيه، أحدها مرئيّ والآخر لا مرئيّ، داخلي وخارجيّ، ملموس ومحسوس، وهكذا في سلسلة ثنائيّات لا تنتهي، تستولد بعضها من خلال التنوّع الكبير الذي يسم أعمال فوّاز حدّاد، حيث يكون التاريخ حاضراً ومستحضراً، والحاضر كذلك، من دون أن تكون هناك ضبابيّة في التنظير للمستقبل، اعتماداً على مقدَّمات صادقة وصادمة، لا بدّ أن تؤدّي إلى نتائج معيّنة.
لا يرتكن حدّاد إلى القوالب الجاهزة للشخصيّات الروائيّة، ولا تصنَّف شخصيّاته تبعاً لتلك التصنيفات الكلاسيكيّة، التي حاولت تقعيد الشخصيّة، وسعت إلى إغلاق باب الاجتهاد في هذا المجال من خلال الإلزام بنماذج متعارف عليها تهلهلت بالتراكم.. حيث تكون شخصيّاته مزيجاً إنسانيّاً، تعكس التوتّر الذي ينتاب المرء في العالم الذي يعيشه، تُقدَّم الشخصيّة على أنّها ابنة واقعها، فلا تكون خيراً بالمطلق ولا شرّاً بالمطلق، إنّما جمع الطباع والصفات. يصوّر انقياد الإنسان لما يُفرض عليه، يصوّر ثورته الباطنة المضمرة، وارتكانه وارتهانه للقوى الخارجيّة، فيظنّ البعض أنّ هناك تناسباً عكسيّاً بين المقدَّم والواقع، في حين أنّ التدقيق فيها والتبصّر في دقائقها يؤكّدان أنّ الإنسان هو مركّب من كلّ تلك الأهواء والنوازع، وهو المخلوق الغريب الذي يشتمل اشتمالاً نافراً ولافتاً على المتعاكسات والنقائض في ذاته..
إنّ إلقاء نظرة بانوراميّة فاحصة على مؤلّفات فوّاز حدّاد، ابتداء من مجموعته القصصيّة الوحيدة «الرسالة الأخيرة» وحتّى روايته المميّزة «المترجم الخائن»، مروراً بأعماله الأخرى، تبدّي لنا الخيط الفاصل الواصل فيما بينها، وهي تمحورها حول ثنائيّات، أو انقسام شخصيّاته إلى عدّة شخصيّات.. أو تشظّي أماكنه وتعمّمها..
ففي الرسالة الأخيرة، يكون فريد زعبوبة المسكون بالخوف، موجوداً مع فاعل الخير الذي يمطره بالرسائل، كأنّ فاعل الخير ذاك هو صورته التي يخشى من التفكير فيها، أو البوح بما تبوح به، ثمّ يتعاظم خُوافه المَرضيّ المزمن من كلّ ما يحيط به، حتّى يُفقده القدرة على القيام بأيّ شيء، أي يشلّه شلاً كاملاً ويودي به.. وفي رواية «موزاييك 39» نجدّ أن هناك ازدواجيّة تحتّمها الظروف والوقائع عند عدّة شخصيّات، فيوسف سرحان مثلاً، يكون مشتّتاً بين مكانين، دمشق وباريس، كما يكون متوّهاً بين امرأتين، وبين الواجب والطموح، بين الواقع والمأمول، أي يكون نهباً للصراعات التي تعتمل في صدره، وتقعده في واقعه.. ويتطوّر الصراع أو الانقسام في رواية «تياترو 1949» حيث يكون المسرح نفسه مسرحين، وتكون الأحداث التي تجري على خطوط متقاطعة، في خلفيّة مكانيّة مزدوجة، دمشق ومصر، متخيَّل ومَعيش، وكلاهما يشكّلان عالماً روائيّاً متكاملاً، تتعارك فيه الشخصيّات، تنقلب فيه على بعضها وعلى ذاتها، لا يبقى في ذاك العالم المتغيّر شيء ثابت، بل يكون الانقلاب على كلّ شيء هو ما يسم المرحلة وشخصيّاتها، ولعلّ أبرز تلك الازدواجيّات تتجلّى في شخصيّة حسن فكرت، الذي يكون مسلماً، ثمّ يتقمّص دور حبيب رزق الله، المسيحيّ، المهاجر الثريّ الذي كان قد استوطن مصر، وكان قد اشتهر على أنّه فاعل خير كبير، ثمّ يكون هناك تبادل للأدوار بينهما، في سياق مُحكَم، يغيب حسن فكرت فصولاً كاملة، يحلّ محلّه أثناءها حبيب رزق الله، الذي يكون مركز الأحداث، مطّلعاً على الأحداث التاريخيّة المصيريّة التي كانت تتحكّم بالبلد، وتتناوب في السيطرة عليه، حتّى يظنّ القارئ أنّ هناك أكثر من شخصيّة، وأنّ حسن فكرت ليس هو حبيب رزق الله نفسه، يشي بذلك البراعة في تصوير أفكار ورؤى مسيحيّ يختلف في تربيته وإيمانه ومعتقده عن المسلم، كما يؤكّد ذلك الاختلاف البيّن بين مظهريهما، من خلال التمكّن من وصف وتصوير المأكل والمشرب والملبس، من خلال الأدوات التنكّريّة التي يستعملها حسن فكرت عند الانتقال إلى حبيب رزق الله، وبالعكس.
وفي رواية «الولد الجاهل» نعثر على شخصيّة حسن لطفي، الموظّف في ديوان وزارة التربية والتعليم، الذي ينتدب إلى وزارة الداخليّة، حيث لا تعبّر وظيفته الصغيرة عن طموحه الكبير في أن يكون كاتباً ذا شأن.. يعكس ذلك تعليقاته وملاحظاته على قصص كاتبة تقصده في مكتبه لتسأل عن أوراق خاصّة بها. أمّا في رواية «صورة الروائيّ» يتطوّر الأمر، فازدواجية الشخصيّات الروائيّة تترقّى، أو يتمّ تصعيدها، لتكون هناك ثلاث شخصيّات تنسكن شخصيّة واحدة، فالروائيّ هو السارد وهو المجهول «س» وهو في بعض منه الأستاذ صبحي قدوري نفسه، مدرّس التاريخ، الذي ربّما يكون امتداداً وتطويراً لشخصيّة رزوق الوارد، مدرّس التاريخ في قصّة «تلافيف الذاكرة» في «الرسالة الأخيرة». يحلّ أحدهما محلّ الآخر في السرد، ينوبان عن بعضهما في كتابة فصول من الرواية، حيث كلاهما يكتب رواية عن المرحلة نفسها، ولكن من وجهة نظر مختلفة، لتكتمل الصورة في النهاية، مقدّمة بعضاً ممّا وقع من وجهتي نظر مختلفتين، وتعقيبين مسهبين في التدقيق والتحليل. يتناوب الراوي وقرينه أو ظلّه أو عدوّه أو داخله «س»، على رواية الفصول، يتواصلان في المناقشة، يتواعدان على التلاقي، يتبادلان الفصول، للاستئناس والاطّلاع، لتكون النتيجة إبداع رواية تكون اختلاط واشتراك بصائر ومصائر عدّة. يتدخّل الروائيّ في النهاية بصفته الشخصيّة والاعتباريّة معاً، كونه هو الخصم والحكم معاً، بعدما يحقّق غاياته، حيث تكون الصور المعكوسة في مرآة الذات، عندما يقرّر أن يذيّل رواية ليست روايته بحاشية لا غنى عنها، وهي اضطراره إلى توقيعها باسمه «فوّاز حدّاد» الذي يعرّف عن نفسه في الختام ويقدّم نفسه للسارد الذي ينتظر المجهول، ليكون المعلوم المصرَّح عنه هو المجهول المعروف منذ البداية، ولكن في هيئة أخرى، مُبلبلاً بذلك هدوء القرّاء، بجهره بما يُظنّ أنّه يتوجّب التكتّم عليه. فالقارئ يعرف أنّه يقرأ فوّاز حدّاد، ولكن يكتشفه في النهاية أنّه هو الذي سيأخذ على عاتقه أن يكون الشخصيّة الروائيّة التي كانت موجودة على مدار الرواية، ثمّ يثبّت في الحاشية أنّه مستعدّ لتحمّل تبعات ذلك عندما يكتب: «أيّها القارئ الكريم.. لقد كتبت هذه الصفحة الأخيرة، كي أتحمّل نصيبي من النقد، وإذا لم أحظَ بتنويه على جهدي، فحسبي ما حاولته، دون الأسف على مديح فاتني على ما لم أحاوله».
وفي روايته «الضغينة والهوى» يلعب حدّاد لعباً روائيّة عديدة، ينوّع في أسلوبه، وطرائق عرضه، يوهم القارئ أنّه قد أزاح الحجاب الذي يحجب بينه وبين المقروء، عندما يخاطبه مباشرة، مزيلاً الالتباس الذي قد يحصل، مزيداً بذلك حالة اللبْس، ومضيفاً إليها الإرباك، يغوص في عوالم السياسة والأعمال والمساومات والمفاوضات والمطامع على أعلى مستوى، ما يجعل القارئ يتوقّع أنّه على أعتاب قراءة وثائق تاريخيّة، يتلصّص عليها. وهذا التأكيد من قبل الروائيّ على إشراك القارئ في التدبّر في القضايا المطروحة، من خلال عرض مجموعة من وجهات النظر، والتركيز على التعدّد، حيث يُحتمل أن يستبطن كلّ واحد معاكسه. يكتب التاريخ من ضمنه، مراقباً متابعاً، متتبّعاً، مدقّقاً، مصوّراً، نابشاً، ممحّصاً بعين الروائيّ الثاقبة فيما جرى ويجري، ومتنبّئاً بما سيجري بناء على آليات التفكير المجتهدة.
لا تكون الازدواجية سمة الشخصيّات وحدها، بل تتعدّى إلى الأمكنة والأزمنة أيضاً، ومن تلك الشخصيّات: «أوستن، ساندرز، غوبلان، دولمونت، سعاد، طرواح..». كما يكون العمل الازدواجيّ فاعلاً ومستمرّاً في روايته الضخمة «مرسال الغرام» حيث يكون استحضار الأزمنة والأجيال معاً، من خلال اعتماد قرائن وشبيهات لها بين أكثر من مكان، تشكّل مسرحاً للأحداث، حيث يكون الانتقال من زمن إلى آخر، ومن مكان إلى آخر، ناقلاً معه شخصيّته الرئيسة رشّوم، باجتهاداته الفنّيّة، الصوتيّة خصوصاً، عبر عوالم وحيَوات شخصيّات تاريخيّة، باختلاق أنداد أو أشباه أو صور لها، كأمّ كلثوم، أحمد رامي، القصبجي، السادات، عبد الوهاب، وعبر شخصيّات تكبر في الظلّ «م. ع، ل. ع» نوال والأعمى.. وشخصيات تتمحور حولها الأحداث، تتجاذبها الأنواء والأهواء، في عالم روائيّ يصوّر الحياة بكلّ ما قد ينوجد فيها، من حبّ وحقد وغيرة ولصوصيّة وفنّ... يمزج بين الأمكنة، أو يزاوج بينها، ليكون عالمه واسعاً ومتشظّياً، ينطبق على أكثر من مكان. أي هو تعميم للأمكنة وتوسيع لها لتعميم المسؤوليّة وتوسيع مجالها. يصوّر التصفيات والتوريات في عالم الفنّ، الذي يكون محكوماً بسلطات أعلى من الفنّيّة وأشمل منها، تجيّرها لمصالحها، ولا تنقاد لمزاعمها.. أي تصنعها وفق مصالحها.. وهذا يعرّي الواقع المهتوف له كثيراً، ويسمّي الأمور بمسمّياتها. ثمّ تأتي روايته «مشهد عابر» لتلقي الضوء على لقطة تتعمّم بدورها، فلا يبقى المشهد عابراً، بل يتوسّع وينقل مشاهد كثيرة، لسلوكات متجذّرة. فأحمد ربيع، ينتقل من كاتب وصحافيّ إلى متّهم ومجرم ومتشرّد.. «تداعياته لم ترد عبثاً، ستعود به إلى عالم المسرح الذي لاءم من قبل تركيبة شخصيّته المنقسمة بين الانطوائيّة والانبساطيّة، وقد كان أميلَ إلى الشطر الانطوائيّ منها ذي المساحة الأكبر..». ص34. كما تطال الازدواجيّة بمعناها السلبيّ شخصيّات ثانويّة، ومن عجبٍ أنّها ستكون مصدراً للمباهاة والفخار، فقد يوصَف المتمتّع بها بأنّه رجل لكلّ أوان، كما هو «أبو راما» الذي اشتهر عنه بأنّه عدّة رجال مجتمعين معاً في واحدٍ وفي آن واحد، كان رجل كلّ أوان!..
أمّا في روايته «المترجم الخائن» التي عرّى فيها الممارسات الشائنة التي تتمّ في حقل الأدب باسم الأدب، وهي لا تمتّ إلى الأدب بِصِلة، نجد الازدواجية تتصاعد إلى رباعيّة، حين يتبعّض، حامد سليم؛ الشخصيّة الرئيسة، ينقسم على نفسه، يكاد أن يتوه بين اسمه الحقيقيّ والأسماء التي ينتحلها لضرورات السلامة، كي ينعم ببعض الهدوء المفقود، أو بعض الامتيازات التي لن ينالها ما لم يعتمد ذلك. بعيداً عن أعين الرقباء الذين يلقون به خارج الوسط الأدبيّ/ اللاأدبيّ. حامد سليم، الذي يصبح اسمه وبالاً عليه يتوجّب عليه أن يصبح آخر، بعد جريمته النكراء بحق رواية الأفريقيّ الذي فاز بجائزة بوكر، وذلك عندما غيّر الخاتمة بما يتلاءم ما يجب أن يكون لا ما اختاره المؤلّف، يكون نفسه ولا يكونها في الوقت نفسه، ينقسم بكلّيته بين حامد سليم المتكتّم على المترجم عفيف حلفاوي، والراصد الثقافيّ أحمد حلفاني محرّر القسم الثقافيّ في إحدى الصحف، وحسن حفلاوي مزوّد لصّ الروايات فاروط بالأفكار الغريبة، الغربيّة.. يضيع في زحام شخصيّاته، مترجم خائن، مخوَّن، إلى مترجم متخفٍّ، إلى مشرف ثقافيّ، إلى سارق لالتماعات المؤلّفين. نتيجة لذلك يرى صورته مشوّهة، ويرى نفسه مسخاً: «لا يخفى عليه ما يتعرّض إليه من نهب حثيث، وخضوع لأساليب هو ضدّها. فلا الترجمة الحرفيّة لحلفاوي ترضيه، ولا الراصد الأدبيّ المنساق في النهاية لأوامر رئيس التحرير يسعده، ولا اختلاس الروايات يعدّ عملاً مجيداً، كلّ منهم يستعمله على هواه، المترجم التافه يستغلّ معارفه في الترجمة، والراصد المتطفّل لا يتورّع عن ممالأة الوسط الثقافيّ، وحفلاوي يستعير ذائقته الروائيّة. يتقاسمه النشطاء الثلاثة، بين رواية تترجم، إلى مقال يُحرّر، مروراً بروايات تفصفص، جادين في عمل دؤوب. لا يستريح من متاعبه معهم إلاّ خلال النوم»..«ص445».
بعد إلقاء هذه النظرة السريعة على بعض من الازدواجيّات التي يمكن الحديث عنها في أعمال فوّاز حدّاد، حيث قرائن ورهائن.. ظلال ومرايا.. صور وحكايا.. قصص وتداعيات.. مناجَيات وظنون.. قد يتساءل المرء: لماذا هذا الإصرار من قبل الروائيّ على اعتماد أوراق أبطال ازدواجيّين في رواياته؟ هل يعكس بذلك الانقسام الحاصل في الواقع؟ هل يدين الازدواجيّة فيما يعرضه ويطرحه، أم أنّ هنالك غايات أخرى غائبة أو مغيّبة عنّا؟ هل الازدواجيّة بكلّ تنوّعاتها؛ ازدواجيّة الشخصيّات، الأمكنة، الأزمنة، هي فضيلة الواقع المرويّ، المُمسرح، أم أنّها إدانة لهذا الواقع..؟! هل الأضداد هي وحدها التي يمكن أن تظهر الحقائق..؟!
لا شكّ أنّ وراء الازدواجيّة ما وراءها.. حيث أنّ غناها بالأبعاد هو إغناء للعوالم الروائيّة المقدَّمة، وتثوير لكثير من الأسئلة والتساؤلات..!