وفي العصور الحديثة, وتفرعات العلوم الإنسانية, احتلت دراسة المكان مساحة واسعة للبحث عن تطور الجنس البشري , وبالخصوص ارتقائه الحضاري.
وتشهد آثار الغزوات بين بني البشر على قيمة المكان في نجاح غزوة ما أو فشلها. فأعمال التدمير أو الحرق التي شهدتها حروب وغزوات العصور الأولى للبشرية, لم تكن تستهدف الصخور والحجارة, أو المواد الطبيعية البسيطة, التي بنى منها الإنسان مكانا لحياته, بقدر ماكان الإنسان ذاته هو المستهدف من الإنسان الآخر الخصم أو العدو.
من لبنات وحجارة وصخور المكان البدائي الأول , الموغل في القدم, تأسست حضارات البشر المتنوعة, وصولا إلى ناطحات السحاب , مرورا بالقصور والمعابد. ومعها تطورت وسائل النيل من الأمكنة, عبر الغزوات والحروب. فالأكواخ التي كانت تؤوي الأميركيين الأوائل- الهنود الحمر- اجتثت على أيدي الغزاة البيض, في مسعى منهم لإلحاق الهزيمة المطلقة والأبدية بسكان البلاد الأصليين. ومن أجل ذلك, ولتبرير الارتكابات الفظيعة بحقهم, جرى توظيف الأيديولوجيا الدينية القادمة مع المستوطنين والمبشرين الأوروبيين, التي جذرها «تحقيق وعد الرب» وفق أسطورة العهد القديم, في العودة إلى «أورشليم».
وحين مضى التاريخ نحو انفجار الصراع على فلسطين, التي فيها» أورشليم» القدس, ارتبطت الحرب على الإنسان, صاحب الأرض, بتغيير معالم المكان, ليصبح مطابقا للادعاء المرتكز إلى التاريخ كما هو في الأدب التوراتي.
إسرائيل متذرعة بالسماء احتلت الأرض, ذلك ماعبر عنه الشاعر الفلسطيني مريد البرغوتي في كتابه «رأيت رام الله». لكنها بعد احتلال الأرض بذريعة السماء «الوعد الإلهي بالعودة لأرض الميعاد» تركت السماء وراحت تفتك بالأرض وكل ماعليها, بدءا من الإنسان الذي يعيش فيها . ولأن هيكل سليمان خرافة, كما بين عدد من الباحثين ومنهم باحثين إسرائيليين, تكشف الصراع على المكان بتوسيع الاستيطان ليشمل مساحات تتسع لألوف « الهياكل» لكن ليزرع فيها عمراناً للاستيطان, يبتلع مساحات لاتعود لحدود بلدية القدس , وهو ماابتدع له الإسرائيليون اسم « القدس الكبرى». وتتنكر الدعاية الاسرائيلية لحقوق الآخرين من السكان الذين يعتنقون الديانتين السماويتين- المسيحية والإسلام- ويروق لصانعي السياسة الاسرائيلية تأطير الصراع في المكان وعليه باعتباره صراعا على مقدسات وحقوق ماضية مدعاة , برهانها الوحيد الذي تحاول استحضاره, بعد فبركته, ينطلق من عظام المقابر, إضافة إلى التذرع بالسماء.
ولأن المخططين والمفكرين في إسرائيل يقدرون أهمية المكان( القدس- أورشليم) اتجه عدد من الأدباء لتكريس القدس في الأدب العبري , عسى أن تنجح الصهيونية في جعل العالم ينظر إلى القدس كمكان يهودي متفرد وبامتياز. ولاحظ الكاتب والأديب المقدسي ذلك حين أشار إلى تعمد عدد من الروائيين الإسرائيليين ذكر القدس بشكل متكرر ودائم في أعمالهم. مثال ذلك مافعله الروائي الإسرائيلي أ- ب يهوشاع في قصة له هي: « ثلاثة أيام وطفل» جاءت في خمس وسبعين صفحة , ورد اسم القدس فيها اثنين وخمسين مرة حيث يسهب المؤلف في وصف المقدسيين الإسرائيليين كما في هذه الفقرة على سبيل المثال « في بعض الأحيان حينما يأتيهم المزاج ينظرون نحو الشمس, الريح والسماء الممتدة فوق مدينتهم باعتبارها رموزا تتطلب الدراسة» ويذهب الكاتب المذكور إلى الأحياء والشوارع وحتى الأشجار والمناخ , في غرض واضح ومكشوف لجعل المكان يتحدث بلغة الإسرائيلي, وليكون الأخير وكأنه عاشق حميم للمدينة.
ذلك يعني أن الإسرائيلي اكتشف تهافت فكرة التاريخ التوراتية عن أرض الميعاد, على الأقل في مجال العلاقة مع الثقافات العالمية, فشرع بزرع فكرة المكان بالأدب الإنساني الحديث لتحقيق نجاح أفضل في احتكار المكان يهوديا وإسرائيليا.
هذه الجهود الإسرائيلية في الدعاية عبر شتى أنواع الخطاب, تفسر مايحدث- كما يقول شقير- في كثير من الحالات حين يفاجئنا بعض الناس أثناء السفر إلى أوروبا أو الولايات المتحدة بالسؤال : من أين أتيت؟ فنجيب: من القدس! وهنا تقع المفارفة عندما يقول السائل على الفور: إذن أنت يهودي. وهذا ماوقع مع الشاعرة فدوى طوقان في زيارة لها إلى لندن, وفد عبرت عنها في قصيدة لها كتبتها قبل سنوات. والأمر نفسه مع فلسطينيين آخرين.
لاشك بأن الصراع على المكان في القدس وفلسطين, له بعده التاريخي والرمزي على مستوى ثقافي معين, غير أن هذا البعد لايكفي لأن للصهيونية رموزها المفبركة عن التاريخ, ويصبح التقوقع داخل منطقة الرموز عامل تشويش , وربما ينتج غموضا عن الحاضر والمستقبل, تتسلل في أعطافه ثقافة الغازي لتبرر حقها في المكان ثم احتكارها لوجوده بالكامل, جنبا إلى جنب مع برامج الإعمار والتوسع, اللذين يقومان على ماتم هدمه من أحياء ومساكن عربية, أو على مايتم تشييده على الأراضي المصادرة تارة باسم الحق التاريخي وتارة أخرى بغطاء الأمن الإسرائيلي.
علينا إذن إعطاء القدس موقعها في خطاباتنا الأدبية باعتبارها مكاناً للإنسان , تشهد تفاصيله ومجريات حياة الناس فيه على حقيقة المكان وأحقية ساكنيه ومواطنيه الأصليين في استمرارهم بالعيش فيه وبشكل طبيعي حميم.
في نص للشاعر مريد البرغوثي أنسنة للقدس وانتقال بها من حقل الرموز والتاريخ إلى الواقع اليومي . يقول مريد : « أسوأ مافي المدن المحتلة أن أبناءها لايستطيعون السخرية منها. من يستطيع أن يسخر من مدينة القدس؟
الآن لاتصلنا المكاتيب على عناويننا فيها.
أخذوا عناوين بيوتنا وغبار أدراجنا.
أخذوا ازدحامها وأبوابها وحاراتها.
أخذوا حتى حتى ذلك المبغى السري الذي كان يثير خيالاتنا المراهقة في حارة باب حطة, بغانياته البدينات كتمثيل الهند.
أخذوا مستشفى المطلع, وجبل الطور الذي سكن فيه خالي عطا وحي الشيخ جراح الذي سكنا فيه ذات يوم.
أخذوا تثاؤب التلاميذ فوق مكاتبهم ومللهم من الحصة الأخيرة يوم الثلاثاء.
أخذوا خطى جدتي في طريقها لزيارة الحجة حفيظة وابنتها رشيدة. أخذوا صلاتهما وغرفتهما الفقيرة في « البلد القديمة» أخذوا الحصيرة التي كانتا تلعبان عليها البرجيس والباصرة.
أخذوا ذلك الدكان الذي كنت أسافر إليه خصيصا من رام الله لشراء حذاء من الجلد الممتاز, وأعود للعائلة بفطائر من حلويات «زلاطيمو» وكنافة من حلويات «جعفر». وبعد ستة عشر كيلو مترا في باص بامية, وبأجرة خمسة قروش, أعود إلى بيتنا في رام الله مزهوا متباهيا. فأنا عائد منها, من القدس.
الآن لن أرى قدس السماء ولن أرى قدس حبال الغسيل. لأن إسرائيل متذرعة بالسماء احتلت الأرض» ( من كتاب رأيت رام الله).
قدس الناس, قدس الحياة, قدس الحقيقة, قدس الصراع على المكان, هي الأكثر تأثيرا في الكشف عن الحقيقة, وللرموز دورها في تدعيم ذلك , لكنها ليست البديل الكافي لتبيان أبعاد الخطر على القدس ومصادره وتجلياته. في كتابه : « خارج المكان» الذي قدم به إدوارد سعيد مذكراته, يظهر المكان- القدس- في بعض التفاصيل ذات الدلالة على محطة في تاريخ الصراع على المكان بين سكانه والقادمين إليه من خارجه غزاة ومستوطنين , طامعين ومغرر بهم. وسعيد أبعد مايكون عن الأيديولوجيا والدعاية. ولعله باختياره عنوان مذكراته « خارج المكان» مسقط رأسه, يقصد القدس , أو يرمزلها.
يكتب سعيد في مذكراته عن القدس « منذ أيامي الأولى في القدس الى آخرها فيها, أذكر بوضوح أن الطالبية والقطمون والبقعة الفوقا والتحتا كانت مأهولة بالفلسطينيين دون سواهم, وينتمي معظمهم إلى عائلات نعرفها ولا يزال لأسمائها وقع أليف في أذني- سلامة, دجاني, عواد, خضر,بدور, دافيد, جمال, برامكي, شماس, طنوس, قبين- وقد أمسوا جميعهم لاجئين. لم أشاهد أيا من المهاحرين اليهود الساكنين حديثا في القدس إلا في أحياء أخرى من القدس الغربية. فعندما أسمع الآن إشارات إلى القدس الغربية, فإنها تعني إلي دوما الأحياء العربية لمرابع طفولتي. ولا يزال يصعب علي أن أتقبل حقيقة أن أحياء المدينة تلك, حيث ولدت وعشت وشعرت أني بين أهلي, قد احتلها مهاجرون بولونيون وألمان وأميركيون غزوا المدينة وحولوها رمزا أوحد لسيادتهم, حيث لامكان للحياة الفلسطينية التي انحسرت إلى المدينة الشرقية التي أكاد لا أعرفها...»
إن قدس إدوارد سعيد على النحو الذي دونه في مذكراته هي قدس الإنسان المعاصر, مكانه يدل على أحقيته بالحياة في المكان الحميم الذي ولد فيه وعاش بعض سنوات حياته في ربوعه. إنه خطاب يلقى الاهتمام العالمي والإنساني, ويخلخل خطاب القادمين مغتصبين للمكان, ذريعتهم استرجاعية مستمدة من التفسير الديني للتاريخ.
أما والمخططات الإسرائيلية تعمل منذ احتلال الأرض, على تغيير معالمها واستبدال أسمائها بشكل فظ , فالمقدسات العربية- مسيحية وإسلامية- وفي مدينة القدس تحديدا تنال القسط الأهم والأخطر في استهداف للحاضر والمستقبل, لا الماضي . وتحاول جاهدة ترسيخ روايتها عن التاريخ لتشريع أهدافها المعاصرة.
وبمناسبة « القدس عاصمة للثقافة العربية 2009» يكون واجب المثقف العربي, إعادة الاعتبار لمفهوم المكان , الذي يجري الصراع عليه بخطابات أدبية وثقافية تنقل التناقض إلى مكانه الطبيعي , وتخرجه من الجمود الأيديولوجي, الذي يحتجز الصراع في زاوية محدودة تقتصر على الرموز الدينية والمدونات التاريخية. فما تعرض له الفلسطيني المعاصر في فلسطين والقدس , وما يتعرض له في فضاءات وطنه اليوم فيه الدلالة الأقوى على ماارتكبه القادمون من خارج المكان بحياة أصحابه الحقيقيين.
وفي نص أدبي جديد للشاعر سميح القاسم, كتبه في ذكرى الراحل فيصل الحسيني, تكثيف شاعري لحقيقة الصراع على القدس ومعانيه:
أنت لم تنصفي
ياالأساطير لم ترفعي أنت أبراجها
بيدي أنا ارتفعت أورشليم ... منزلا منزلا
بيدي أنا.. وبحبي الجميل البسيط العظيم
قلت أبوابها وشبابيكها
وبروح النشيد بنيت على الكون أدراجها
يا الأساطير لم ترفعي أنت أبراجها
ترحلين وإني مقيم
ملء أسرارها
وأنا دائم مستديم
ترحلين أجل ترحلين وإني المقيم المقيم!
إن اعتماد الصهيونية على الأساطير للادعاء بالحق التاريخي على أرض الآخرين, لابد أن يسقط , والانسان المقيم المقيم كما يقول القاسم دائم ومستديم. وكلما تعمقت ثقافة المكان معرفة وعلما وأدبا وذاكرة إنسانية, جاء خطابنا مطابقا للحقيقة الواقعية ومعبرا عن جذور المشكلة ومسبباتها.