إذا ,عليك أن تلتقط أنفاسك .لأنك مطالب أن يكون لذهنك حضوره الكلي دون أن تولي ظهرك لفيض الذاكرة والأحاسيس وأن تترك احتمالات حصارك في زوايا الفجيعة قائما , فعلى متن السرد يتوافد إليك كل ماهو ساكن فوق جغرافيا المكان وماهو راكد في جغرافيا النفوس , لتشعر بأنك وكلما قادتك سردية لفهم كيمياء العراق جعلته أخرى ينأى عنك ويبتعد . فتبدو لكأنك أمسكت بأذيال شيء بحثت عنه ثم وجدت نفسك تفقده هذا لأن آلية استعادته معقدة وعصية على مادة الأمل والتي لايبدو الكتاب وكأنهم يصبون إليها .
هاجس الكشف
تميل السرديات « موضوع البحث « بشكل عام الى نفض الغبار لرؤية المسكوت عنه فتجلوا باللغة انتماء النفوس الى السلام أو اليقين فتبدو أفكارها كخليط من سكب المتخيل فوق الواقع ورفضا لسلبية تجري وراء المعتقد والرصاص و دفعها كنتيجة حتمية لانبثاق جديد لخارطة الحاضر العراقي بساكنيه , وبالنظر الى الأعمال كبنيان كلي تبدو الذاكرة والتاريخ والجغرافية والواقع خليطاً عصياً على الفصل تقودها التداعيات لتنجز جدارية سردية تلم وجه العراق على سطحها . ويكون الوصف هو الناقل لفوضى العراق على طول جغرافيته تقول هدية حسين في روايتها « مابعد الحب « صباح من الحرائق والأجساد المثقوبة بالشظايا والمقذوفة على جوانب الطريق رائحة الأجساد المشوية نهار أخر معطل عن الحياة « ويذهب معها شاكر الأنباري في روايته بلاد سعيدة بالقول « في بلدتي الناس لايصدقون أن موتا طبيعيا موجود في الحياة فهو إما بجز الرقاب أو عبوة ناسفة «
وعبر النصوص نلمس تلاحق الكشف لكأن هذا التدفق في السرد يساعد على التقاط معطيات العالم الخارجي ليعطيه تشكيلا أقرب الى الحركة تفصح عن شغفهم في البحث عن الأسباب الموجبة لما يجري فهو سعي الى نشر لحظات مالحة تغط بالنسبة إلينا في الظل يقول شوقي عبد الأمير في سرديته « يوم في بغداد « ( إن إنسانيتنا وبشريتنا هي التي تطعن بهذه النصال وهي التي تسفك دماؤها وهي التي تتمدد على القارعة ملفوفة بأوشحة حداد لاحد لها )
هنا ومن أجل الكشف تؤسس الكلمات للخيال والخيال للصورة لتفضي بك الصورة الى الواقع في سلسلة تفترض الإدراك الكلي غاية تنشدها عبر حلقاتها ليكون البناء الناهض على التركيب صوري المنشأ أقرب الى استعادة الواقع بالمفهوم التخيلي للحقيقة تأسيسا على تصورنا وتجربتنا المسبقة في معرفة أشكال الدمار , والخراب ,فيصف عبد الستار ناصر في روايته « من أي البلاد أتيت « حالتهم فوق أرضهم بالقول « الهاونات تضرب والسلاحف تركض مسعورة خلفنا تريد أن تنهش جلودنا « و لأن الخيال هو الحرية بشكل ما نجد النصوص تخدمه لتشكل عالما خارجيا يكشف أمام بصيرتنا خارطة المكان ومثال ذلك وصف المقبرة التي يجدها بطل شاكر الأنباري في روايته « بلاد سعيدة « تحت ماء نهر دجلة , أو كاشان في رواية جاسم الرصيف « رؤوس الحرية المكيسة « والتي تبيع أجساد بنات لديها الى عناصر الجيش الأمريكي من أجل المال «
وبالمراوحة بين سياق النصوص اعتمادا على الإدراك الحسي تحت تأثير الوصف , وخلق الصورة ذهنيا بناء على انعكاس الوصف داخل النفس تضيف خطوة في اتجاه اكتمال صورة النصوص.
هاجس الموت
ليس غريبا سعي النصوص لاحتواء الموت أو محاكاته بهذا القدر , فدخول الواقع في طور الضياع يؤدي الى خسارة بطيئة . ولعل نجم والي في فصل من روايته « ملائكة الجنوب « أدرك هذا الأمر فأقام بنيانه السردي على زيارة الى المقبرة الانكليزية وهو الفصل الذي أتيح لي قراءته من الرواية , والمكان هنا بما يحمله من دلالة على الموت هو صورة العراق في وجوده يدلنا على ذلك جمله في الوصف ومنها « لم تعد هناك أشجار النبق « تغير المكان والحنين الى الماضي « لم أر غير امرأة عجوز « شيخوخة البلاد وانعدام الأمل « الجدار الأسود المتهدم « صورة المدن العراقية .
ولأن السرد في حضرة العراق علينا أن ندخل « محراب الدم « لنجد الموت يدور فيها بغير هوادة فلا يكاد يغادر سردية سواء كانت رواية أو قصة قصيرة فهو ككرة الثلج يزداد عدد رواده كلما أوغلنا في النصوص أكثر فتبدو النصوص وكأنها تقودنا بشكل لاواع لاكتشاف هذا الانقياد الأعمى الى الموت وهذا المنطق الصارم في إسقاط قاطني الأعمال السردية والمجاهرة بعبثية الموت في اختطافه الفرد العراقي .
ويذهب بعض الكتاب مع الموت أبعد من ذلك فيرى علي السباعي في قصته « زليخات يوسف « أن القتل أصبح شرعيا وخاضعا للعرض والطلب فعامل القمامة الذي يصطدم برؤوس محشورة بين النفايات يدفعه ذلك للصراخ في النهاية محتجا ومعلنا / مزاد الرؤوس العلني / سارعوا لاقتناء أحد الرؤوس وبأثمان زهيدة.
وبالانتقال بين السرديات نجد كيف أن الموت مسكون فيهم ينشر الخوف والتساؤل حول بلد تدفع الشخوص الى القلق الدائم والاستجارة بالفتنة والرغبة التاريخية في تعطشها – فوق هذا المكان من العالم – لترتوي دائما من دماء قاطنيها يقول شاكر الأنباري في روايته بلاد سعيدة « يبدو أن هذا البلد مصاب باللعنة , لعنة الدم الذي لايريد أن يتوقف « فليس بمستغرب أن تطغى جمل ذات دلالات تبعث على الرعب لتشكل معجما يختص به الواقع العراقي ووقوع الفرد داخله بين شقي الرحى أما الموت بيد الاحتلال أو بيد الميلشيات المسلحة حتى ليبدو أن إدراك العقل ثانوي شأنه شأن الدهشة التي أثقلت شخوص السرد فنجد صورة خياطة رأس الكلب بجسد الشرطي العراقي واختلاط أسماء الأموات أو صورهم تقول هدية حسين « تهالكت أمي قرب القبر فيما الدفان يواري الجثة الخطأ على عجل»
وفي مسرودات مختلفة نجد الموت يؤنسن الأشياء ويلغي الفوارق العمرية والطبقية والمذهبية وبوقفة متأنية بين السرديات نستطيع استنباط الموت كخط عريض وملمح رئيسي ينحو السارد العراقي الى اكتناهه وتلمس حدوثه كمؤتلف لايستطيع الكاتب إقصاءه لتجده يلاحق أقلامهم وشخوصهم في الطرقات والبيوت وحتى في ذاكرتهم .
هاجس الفرد لوعي الذات
يعتبر الواقع هو المرجع الرئيس للخطاب السردي وتتفاوت استجابته للواقع العام بين كاتب وأخر وفق نظرته لهذا الواقع والى الإنسان الذي يدور في فلكه ليفرض سلطته كمتكأ للسرد ببعده الاجتماعي وعلاقته مع الحياة فنجد السائد الاجتماعي طاغيا ومتكررا منساقا وراء خصوصية التجربة ومدى وعيه لها فتراوح النصوص – موضوع الدراسة على الأقل - بين الحلم والواقع الذي يصوغه الحلم فهو فعل ذهني يدخل العالم فيها إطار الوعي كمعادل نفسي يعيد التوازن بين كفتي الحياة ( الحلم والواقع )
هنا ينحسر الخطاب السياسي ليظهر الاجتماعي جليا ببعده الانهزامي وارتباطه الوظيفي بالحاجة الى تحديد موقعه فينكفئ السرد باتجاه الداخل الإنساني ويعتمد التحليل السيكولوجي والاعتماد على الفعل النفسي لتحديد أفاق شخوصه.
نجد في قصة إبراهيم سليمان نادر - أخر أيام العشق أننا نقف بعد صفحات من وصف امرأة وحواره معها داخل النهر وخارجه لنفاجأ بكونها أحلام يقظة يسوقها وهو يساق الى سجنه الانفرادي . ونلمس الحالة نفسها عند عبد الستار ناصر في روايته «نصف الأحزان « ( في الغرفة ( 7 ) تزوجت النساء كلهن هاهي ذي تدخل نحوي «
هنا الحرية بشقيها ( المادي – الروحي ) ذهنية لاتتبع منطقا في مكان ضاقت عليه جهات الأرض وأصبح الحب محرما والكلام محظوراً.
وعند عبد الستار ناصر في قصته « البحث عن الذهب « يراهن السرد عند انجازه في انفتاحه على الفائت وتساؤله المأساوي عن صيدلية مشاعل والتي أصبحت هاجس الكاتب في بحثه عنها وارتباطها بالقيمة الأغلى في العالم وهو الذهب وهي حالة عاطفية مركبة تشمل الروح والعقل ازدادت خصوصية في حالة المنفى ليتعمق المأزق النفسي في وجدانه ولتتولد روح منهكة .
ويتفاوت الأداء الذي يسلكه النص للتعبير عن ذاته ( ذات الكاتب) لكنه بشكل عام يبدو كنموذج دائري لصورة متوالدة يكدس السرد مفردات هذه الصورة بشكل متجاور لنقل المتخيل الى الفعل فبين النصوص لاتمايز سواء بمحمولها الفكري أو النفسي .
الكاتبة هدية حسين في روايتها « ما بعد الحب « تطرح مشكلتها عبر « قضية إنسانية « ذاتية وتختار الأكثر قربا ومعقولية «علاقة الرجل بالمرأة « وكيف يصبح هذا الجانب العاطفي خارج منطق الواقع وعلى هامش اهتمام الفرد والعالم فالنفي هنا جاء من العلاقة ذاتها والتي أنيط بها فعل التوكيد تقول هدية حسين « يغدو فيها الزواج صفقة للبقاء في زمان ومكان لايناسبان العواطف « في اشارة الى صفقة زواجها بموسى كي تستطيع الرحيل معه لأن عودتها الى العراق مستحيلة , كما أنها تجد غضاضة في التقاف الفرصة .
انه وعي الذات للمنفى حيث لايمكن أن نحدد خياراتنا أو بمعنى أدق ليس لشخوص السرد العراقي الكثير منها والوقت لتخير أفضلها . تقول هدية حسين « ما يؤلمنا خارج الوطن ليس الغربة وحدها انها ذاكرتنا التي تنزف « ويوضح عبد الستار ناصر « ذاكرة السراديب تنهش لحمنا وتأخذنا الى جحيمها كما الحمى «
مايلفت الانتباه في النصوص موضوع الدراسة أن جميعها تبدأ من النهاية وتعيد سردا وفق الذاكرة فكأنها وقفة متأنية تحاول فيها الشخوص طرد العالم الى خارج ذاتها , ذلك لشعورها بأنه بمكوناته المختلفة يقوم بمحاولة السيطرة عليها وحصارها , فتبحث أولا عن ترميز العناوين لأنه النافذة التي تضيء النص فنجد مفارقة شاكر الأنباري « بلاد سعيدة « وانتفاء الإنساني عند هدية حسين « ما بعد الحب « وإبراهيم نادر أخر أيام العشق والخيانة عند علي السباعي « زليخات يوسف « وهول ما يجري في المكان شوقي عبد الأمير « يوم في بغداد « والسخرية من ديمقراطية الاحتلال لجاسم الرصيف «رؤوس الحرية المكيسة» وفعل القادمين للاحتلال في إيماء لما يفعلونه في البلد نجم والي « ملائكة الجنوب ومحاولة إيجاد وطن في طور الضياع عند عبد الستار ناصر « البحث عن الذهب و «من أي البلاد أتيت»
عناوين توحي لقارئها بشعور شخوصها بالاستلاب وطرح تساؤل يؤرقها « لماذا الأن ؟ ......وهنا ؟ « مما يجعل الشخوص في النصوص عامة تنقسم الى قسمين إما مهاجر في المنفى أو خائفا في الوطن ويفكر في المنفى .
يرى « ثوماس براون» أن ذكرياتنا هي أكثر فقرا من الواقع وهنا أستطيع القول أن خوفنا الذي يلازمنا طوال قراءتنا لإحدى السرديات العراقية هو أكثر فقرا من رعب الواقع فمن منا لم يشعر قط ماشيا ببصره عبر قنوات التلفزة أن العراق يفقد ملامحه فيما لابارقة في الأفق تبين الصورة التي سيتخذها هذا البلد بعد حين إن ما هو صعب يقع خارج النصوص أي في تخيلنا ومحاولة تجريدنا لواقع يأس إنساني على شفير الموت يقول شوقي عبد الأمير في سرديته « يوم في بغداد «
( هنا لا الحبر يجف ولا الدم ) فيجيبه صدى عبد الستار ناصر بقوله « هو الجرح ياسيدي الوطن وأنا العابر المستحيل «