وقد ارتأت البلدية تعيين حارسٍ لها بسبب وجود بعض مقتنيات المجلس البلدي بداخلها أثاث قديم ، محركات ديزل ....عربات مصادرة عن الأرصفة والشوارع ....
لم نعد نرى والدي إلا نادراً
وإذا اشتعلت في داخله رغبة الأبوة ، كان يمر علي في المدرسة ، يطلبني إلى الإدارة .، يقبلني ، وأحياناً كان يحضرلي بعض الفطائر من جبنة وزعتر.
صارت حياتي متناقضة في لقائي به.
هو يذهب وأنا أجيء ....
أنا أنام وهو يستيقظ ....
حياتي لاتلتقي بحياته إلا قليلاً....
وأحياناً لا أراه في الأسبوع مرة ، أو في الشهر مرة واحدة كالقمر الذي لايكتمل إلا لمرة واحدة فقط خلال شهر واحد
أيامي أصبحت كالعتمة،حين يحضر النهار والدي أغيب ....
في بعض الليالي العاصفة ،كان يحضر إلى المنزل خلسة ، يضيء الغرفة ،ويوقظنا ،يقبلنا وهو يقول :
عندماتكبرين لن تسمحي لي ولأمك بأن نقبلك كثيراً ، أنت وهذا الفصعون....
وكان يشير إلى الفصعون ، يأخذه بين ذراعيه ويبدأ بتقبيله على عينيه ووجهه ورقبته .... فيتذمر أخي الصغير الذي لم يتجاوز بعد الخامسة من العطر والورد ، يتثاءب محاولاً إبعاد كومة الشوك تلك عن وجهه....
أما أنا فمحاولاتي تذهب وتذوب كقطعة سكر في الماء حيث كانت والدتي تحدق بي وتعبس ، فأبتلع تذمري وانزعاجي .
وعلى رائحة التبغ نشرب الشاي معاً ، مع بعض السعال ....
هكذا هي حياتي مذ ولدت
ضيقة - كما تقول ابنة جيراننا - كملابسها ،ومرة كغصات أمي ، والتي تكاد تخنقنا يوماً بعد يوم .
كل شيء في الغرفة نفسها.... الطبخ ورائحة الدخان وشرب الشاي
والنوم والغسيل واستقبال الضيوف ....
ورغم ضجري وكآبتي، كنت أجد أحياناً بعض العزاء والفسحة لألعب مع أخي الصغير ....
وقلّت كآبتي ، وانخفض ضجري ، حين أحضر لنا والدي ذات يوم لعبة أعطاه إياها أحدهم ،بعد أن حمل له أبي كثيراً من الأغراض إلى الطابق السادس في البناء القريب من الحديقة....
غسلت أمي اللعبة ونظفتها جيداً ، صنعت لها ملابس أ نيقة ، وقبعة من القش ، فبدت جديدة ،زاهية ....
إذا زارنا أحد ما ،كانت أمي تقسم الغرفة ببطانية، نلعب مع ضيوفنا الصغار في قسمها الخلفي الرطب، ونترك القسم الآخر للكبار، ليشربوا المتة والشاي ، ويتحدثوا على راحتهم ....
ثم ....ذات يوم ، أخبرنا والدي أنه يستطيع أن يبقى معنا كل يوم سبت....
فرحنا ....
وبدأنا نعوض مافاتنا من لعب معه، وشيطنه على أكتافه....
ويوم السبت الماضي كانت عطلته أيضاً
شربنا الشاي معه ، وتشممنا كالعادة رائحة دخانه ....وعند العاشرة اقترحت أمي أن يأخذ أ بي أخي الصغير إلى الحديقة، بينما أنا معها لنحضر الغداء ....
فجأة ....تغيرت ملامح أمي ، وشحب لون وجهها وامتقع....
أحسست بذلك وخفت أن أسألها....
ومع ارتفاع الشمس في السماء ،كانت أمي تزداد هماً ،ويكبر قلقها ككرة ثلج تتدحرج....
- أأنت مريضة ؟؟!!
تجرأت وسألتها ....
بقيت صامتة .... ثم رأيت دمعتين كبيرتين تموجان داخل عينيها ....
وبقلق زائد ، وارتباك ارتدت ثيابها على عجل، أغلقت باب غرفتنا الوحيدة ، أمسكتني من يدي وانطلقت ....
- إلى أين ؟؟!!
سألتها مستغربة ....
تمتمت بشيء ماغير مفهوم ....فعدت لأسأل
أمي ....إلى أين سنذهب ....ألا تريدين إكمال صنع الغداء ؟؟!!
رأيت الدمعتين تسيلان، وبقيت أمي مكبوتة ،وشيء مابداخلها ينتظر الانفجار.
لم أكن لأصدق أن لقلب الأم عين أخرى ،ترى من خلالها وتحس ، وأحياناً تتلمس الأحداث وتتيقن من وقوعها.
بين ليلة وضحاها اشترينا منزلاً جديداً ، له نوافذ وشرفة كبيرة ....
انتقلنا إليه ،ولم نتعذب أبداً في حمل أثاثنا البسيط ....
إنما حمل أمي الداخلي كان ثقيلاً ....
ثقيلاً جداً ....وأثقل ممايتحمله القلب....
اتسع المكان ، لكن الصدر ضاق
حوالي ستمئة ألف ليرة ، كان ثمن موت أخي الصغير في صباح ذاك السبت ،تحت عجلات سوداء لشاحنة كبيرة....