مثله مثل الاكاديميات والجامعات والمتاحف ، ولذا من الضروري أن يكون المسرح الروسي مسرحاً قومياً .
ولكن تأسيس المسرح الجديد يتطلّب “ الريبورتوار “ الجديد . ولما كان أستروفسكي كاتباً تقدمياً وديمقراطياً فقد كان يدعو الى المسرح القومي والشعبي في نفس الوقت ، وكان يقف ضد تكييف المسرح والاعمال المسرحية مع أذواق الجمهور البرجوازي الذي يحاول أن يفرض شروطه غير الجمالية على المسرح . وقد أوضح أستروفسكي أن مهمة المسرح تكمن في تعرية القوى التي تقف حجر عثرة في طريق التطوّر والتهكم من هذه القوى . وقد أعلن أستروفسكي موقفه من المسرح خلال مقولتـه : “ إننا نريد أن نكتب لشعب بأسره “ . وبعد وفاة أستروفسكي كانت الدعوة “ الى الوراء يا أستروفسكي “ فقد وجد جميع النقّاد في مسرح أستروفسكي الفذّ ذي الروح الأصيلة خير معين على مشاكل الحاضر ، وقد كتبت الناقدة ( جوراليفا ) عن مسرح أستروفسكي تقول : “ إن فن أستروفسكي المسرحي في أدبنا هو أكثر تعبير كلاسيكي مكتمل لنفس فكرة المسرح القومي ، ولهذا فمسرحه هو ظاهرة حيّة أبداً للثقافة الروسية “ ولا عجب ان يُقال أن جميع كتّاب المسرح الروسي قد خرجوا من مسرحيات أستروفسكي تماماً كما يُقال أن جميع كتّاب روسيا خرجوا من معطف «غوغول».
تميزت أعمال أستروفسكي المسرحية بأنها كانت مشبعة بالتقدمية والديمقراطية والانسانية وترسيخ المثُل الانسانية ورفض الاضطهاد والاستعباد . وأستروفسكي واحد من كبار كتّاب الواقعية في الأدب الروسي في القرن التاسع عشر ، أو ما كان يُسمّى بـ “ الاتجاه الجديد في الأدب “ فقد كان جوهر الواقعية لديه يكمن في “ حقيقة الحياة “ وفي أن يكون الفن أقرب الى الحياة ويعكسها قدر الإمكان . وكان أستروفسكي يشدّد على ضرورة اقتران الحقيقة الخارجية بالحقيقة الداخلية ، وهذا ما كان ذا أهمية بالغة في السبعينيات والثمانينيات من القرن التاسع عشر ، حينما بدأ الكتّاب الروس حملة شعواء ضد مذهب الطبيعية ، الذي رفضه ( سالطيكوف و شيدرين و تولستوي و تشيخوف ) وغيرهم من الكتّاب الروس البارزين . وهكذا فإن أستروفسكي لم يكتفِ بالكتابة للمسرح بل استمرّ يناضل من أجل فصل المسرح عن السلطة التي كانت تحتكره ، ولم يكن ثمة مسارح خاصة في روسيا يستطيع الكاتب عرض مسرحياته على خشبتها .
لقد سبر أستروفسكي أعماق الحياة الاجتماعية الروسية ، وحاول رد الاعتبار الى الطبقات والكائنات ، التي يعتبرها المجتمع منحطّة ، وهو يُظهر ضرورة تحرّرها : تارة نساء وفتيات وحيدات، وطوراً الفقراء وحثالات المجتمع وأوجد بذلك تضاداً أخلاقياً مع الأخلاق السائدة . وهو بذلك يملك معرفة عميقة للحياة الروسية ، ومقدرة عظيمة على تصوير جوانبها الاساسية ، بصورة حيّة وكاشفة.
في صبيحة الرابع عشر من شباط /فبراير/ /1847/ أنجز أستروفسكي أول عمل مسرحي له بعنوان “ لوحات السعادة الأسرية “ وفي المساء كان يقرأها في بيت /شيفيروف/ ، الذي كان يحب الأخذ بيد المواهب الفتية الواعدة ، ولم يكد أستروفسكي ينتهي من قراءة مسرحيته حتى خيم الصمت المفعم بالحرج ، وفجأة وثب /شيفيروف/ من مقعده واندفع ناحية أستروفسكي وسحبه من يده ، ثم أعلن بحماسة : أهنئكم أيها السادة بهذا النجم الدرامي الجديد في الأدب الروسي ، وللحال انهالت التهاني على الكاتب الشاب من كل حدب وصوب ، حتى أنه لم يجد للنوم سبيلا في تلك الليلة الساحرة ، وقبل نصف عام من وفاته كتب أستروفسكي يقول : “ منذ ذلك اليوم أصبحت أعتبر نفسي كاتباً ، ولم يعد يخامرني الشك أو الريب في موهبتي “ .
إن تلك الأمسية أعطته زخماً كبيراً فانكبّ في نفس العام على كتابة مسرحيته “ المفلس “ وفيها يعرّي مجتمع التجار ويفضح الحيَل والمكائد التي تعتبر الناظم الأساسي للحياة فيه ، فالتاجر الكبير /بولشوف/ يقرّر الاحتيال على دائنيه فيعلن إفلاسه المزيف ، وفي نفس الوقت يكيد له وكيل أعماله الذي يفوقه في المكر والدهاء : فيستولي على أمواله وعلى ابنته ايضاً .
ولكن الرقابة كانت لهذه المسرحية بالمرصاد ، فلم تسمح بعرضها حتى ان القيصر نفسه /نيقولاي الاول/ أمر بوضع أستروفسكي تحت المراقبة . وتعتبر مسرحية “ وظيفة مربحة “ /1854/ الحلقة الاولى في سلسلة مسرحيات كرّسها الكاتب لموضوع جديد يتناول حياة الموظفين والمثقفين ، وكانت انجازاً فكرياً زمنياً كبيراً في عطاءات الكاتب ، الذي كان يرى ان طبقة الموظفين في روسيا القيصرية كان تشكّل احدى دعائم الاستبداد ، وتعيش كما شجرة اللبلاب عالة على الآخرين ، والآخرون هنا هم الشعب الكادح المثقل كاهله بالمتاعب والمصـائب . كتب أسـتروفســكي “ العاصفة الرعدية “ في عام /1859/ عشية الاصلاحات الفلاحية /1861/ كحلقة في مسلسل مسرحياته المعروفة باسم مملكة الظلام . وقد تكون أكمل مثل على هذا الأدب المسرحي ، والذي يتجاوب مع مقاصده على أفضل نحو . فإن “ كاترينا “ امرأة فتية يخنقها الجو العائلي ، وبصورة خاصة حماتها “ كابانوفا “ وهي متزمتة وعدوانية ، تنطق بلسان القواعد الخبيثة والغبية التي تسجن الوجود في رباط تجاري ، بحيث يتوجب على /كاترينا/ ان تعتبر نفسها راضية لأنها تعيش على حساب زوجها ، ولا يجوز لها أن تتوق الى شيء آخر . ولكن /كاترينا/ ترفض الخضوع . وهي لا تستطيع ان تحول دون تدفق الحياة والهوى في روحها ، وتهيم بجنون بحب شاب من عمرها ، وإذ علمت أنها لا تستطيع تحقيق هذا الحب ، تنتحر . فالانتحار هو مخرجها الوحيد ، والتمرد الممكن الوحيد ضد الحقارة التي تكتنفها . ولا يتبقى لزوجها – وهو ضحية مثلها ، ولكنه دونها قوة – إلا ان يحسدها على انتحارها . فإن الأمر الحي في هذه الدراما ، هو النزاع الداخلي الخطير، وامكانية خلاص ، لا تزال بعيدة . ويجمع فيها أستروفسكي بين مواهب الملاحظة لديه ، وحسّه المجرّب بالبناء الدرامي ، وقدرته على الاتصال بالجمهور ، إذ يجعله يكتشف ويحاكم شخوصاً ، يسهل التعرّف عليهم في الحياة اليومية . وتُعدّ مسرحية “ الغابة “ التي ظهرت عام /1871/ والتي تنتمي الى الفترة الأخيرة من انتاج أستروفسكي من اكثر مسرحياته شهرة ونجاحاً . ويمكن اعتبارها من أغنى أعماله بالانفتاح والمرح ، ففيها تمتزج عناصر هزلية وغريبة – يجسّدها صعلوكان جائعان – بسخف ارستقراطية الريف الصغيرة ، تلك الأوساط النبيلة التي يتحالف فيها الادعاء مع العجز . ويتدخل ايضاً السحر غير المتوقع . إنها لوحة متعددة ، تتألف من أكثر العناصر نمطية وحيوية وصدقاً في روسيا ، ومن أبرزها لوناً ورسماً . وذلك في ضوء فكر ناقد زاخر بالارهاف السيكولوجي . وفي عام /1924/ ، أخرجها /ميرخولد/ في تفسير ثوري ، يرمي ، ضمن مناظير ماركسية ، الى إبراز المعنى التاريخي الحقيقي ، والمرمى لما كان يعيشه الشخوص .