حيث كان في عداد خريجي الدفعة الأولى منها. جمع ببراعة بين شخصية الرسام والملوّن، وبين الفنان التشكيلي والباحث المتعمق في علوم الفن وفلسفاته وقضاياه المعاصرة، ساعده على النجاح في ذلك، إتقانه اللغة الفرنسية، وتفرغه الكامل لفنه وأبحاثه الجماليّة، يضاف إلى ذلك، قيامه بترجمة عدد من الكتب الهامة لعل أبرزها )الجنس في العالم القديم(. شارف عمر تجربته الفنيّة على نصف قرن من الزمن، لم ينقطع خلالها عن الإنتاج والعرض والحراك الفني المتعدد الجوانب. فقد أقام عدة معارض فرديّة لأعماله، وشارك ويشارك في غالبية المعارض الجماعيّة، وأمضى سنوات طويلة في عضوية مجلس إدارة نقابة الفنون الجميلة المركزيّة، وكان مسؤولاً عن الفنون الجميلة في الموسوعة العربيّة ومع ذلك أسقطته ذاكرة الفن التشكيلي السوري المعاصر من حسابها، هذه الذاكرة التي حاولت احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربيّة 2008 إحياءها وتنشيطها، غير أن محاولتها هذه، جاءت مبتورة وكسيحة وغير موضوعيّة، محكومة بالمزاجيّة والارتجال وقصر النظر، إذ غيّب القائمون عليها أسماء فنانين تشكيليين هامين، وقاموا بإحضار وتلميع أسماء تربطهم بها علاقات متلونة الأهداف والدوافع، الأمر الذي قزّم، وإلى حد بعيد، حضور الفن التشكيلي السوري المعاصر، ضمن فعاليات الاحتفالية التي اتفق غالبية المراقبين والمهتمين، على أنها جاءت باهتة وفاقدة للنكهة السوريّة الحقيقيّة؟!!
رسام وملوّن
يجمع الفنان فائق دحدوح في لوحته، بين إمكانيّة الرسام والملوّن، حيث يقود ببراعة عملية التوفيق والانسجام، بين الخط الذي يؤطر به الأشكال، ويحدد ماهية العناصر، وبين اللون المشكّل لبنيتها. والخط لديه، قد يأتي مستقلاً. وقد يسحبه من العجينة اللونيّة نفسها، وقد عُرف الفنان دحدوح واشتهر كرسام، من خلال الرسوم التوضيحيّة التي نفذها لملحق الثورة الثقافي في إصداراته الأولى مطالع سبعينيات القرن الماضي التي لا زالت مقياساً (للموتيف) الناجح والجميل.
حول هذه التجربة، يقول فائق أنه ومخرج الملحق آنذاك الشاعر محمود السيد، كانا على موجة واحدة فيما يتعلق بالرسوم التوضيحية وعلاقتها بالنص. أي اتفقا على إمكانية تماهي الرسم مع النص أو عدمه، لأن ذلك كان يعود بالدرجة الأولى إلى طبيعة العمل. فقبل صدور الملحق بيوم أو يومين، وبعد تجميع النصوص من شعر ونقد وقصص ومقابلات أدبيّة وفنيّة، وبعد الانتهاء من تنضيدها وطباعتها من دون العناوين الكبيرة الرئيسة والرسوم. كان فائق يطّلع على النصوص لقراءتها مع ما خُصص لها من مساحات فارغة متنوعة الأبعاد. بعض هذه المساحات كان موحياً وبعضها الآخر غير موح أو مربك، ومثال ذلك مساحة فارغة طولها 25 سم وعرضها 3 سم. إضافة إلى أن النص قد يكون مريحاً وموحياً إلى درجة أنه كان يرى الرسم في الفراغ المخصص له قبل البدء في الرسم، وفي أحيان أخرى كان يجتمع النص والمساحة الفارغة ضده، ما يدعوه إلى الاستعانة بالذاكرة بمعزل عن النص لتخطي المعضلة. وفي هذا السياق، يشير فائق إلى أنه كان يقوم برفقة المخرج، بزيارة إلى عرين الكاتب أو الشاعر موضوع المقابلة. ويذكر أنهما ذهبا ذات مرة، إلى بيت الراوي المعروف (حنا مينه) وفي أثناء تبادل الحديث بين الشاعر المخرج والراوي رسم وجه حنا مينه أكثر من رسمة اختيرت إحداها للملحق.
تجربة غنيّة
يؤكد فائق أن تجربته مع (ملحق الثورة) ومن خلاله مع الأدب والأدباء، تجربة غنية وجميلة، قادته فيما بعد، إلى حقول الثقافة المتلونة، الساحرة، والممتعة، ذلك لأن فائق جمع باقتدار، بين شخصية الفنان التشكيلي الحساس والمتميز، والمنتج، وبين شخصية المفكر الجمالي المهتم والمتابع، لقضايا وشؤون الفن التشكيلي النظريّة.
عندما سألته فيما إذا كانت الثقافة الفنيّة النظرية ضروريّة للفنان، وكيف يستفيد منها، أكد أنه سبق له وسأل الفنان الراحل فاتح المدرس ما يشبه هذا السؤال. ولأن سؤاله وإجابة فاتح تجيب على هذا التساؤل نوردهما فيما يلي:
(ـ يقولون إن للعقل حراساً تمنع الفنان من تقديم عمل فني عار من الشوائب تدعوه أنت (بالعمل الصافي). هل استطعت يا أستاذ فاتح تنويم حراسك، حراس العقل وغيره؟ هل استطعت نسيان أو تناسي ما تعلمته كلياً؟
أجاب فاتح يومها بالقول: عجيب هذا السؤال وخفيف الظل يا عزيزي فائق، كل ما قلته صحيح، إذ ليس لدي ما أضيفه، دعني أدردش معك وأتبادل معك صورة الحادث عندما هاجمتني مجموعة من الزلاقط اللاسعة على ضفاف نهر حلب في الشمال السوري، نفس الشيء يتم معي كلما حاولت رسم لوحة (جادة). عش الدبابير هذا يهاجمني وأنا تحت ضوء النيون في مرسمي، أعلم أنها الأفكار المسبقة الصنع التي تحاول إقحام نفسها في اللوحة (طبعاً بمؤامرة من ذاتي الكسولة)... أترك اللوحة ثم أعود إليها وكل ما أحمله هو رفض مجمل المعرفة “ من الصفر يتولد رائع الواحد “ هذا القسم الذي أخذته على نفسي، يجب أن أبدأ من الصفر، نعم كل مرة من الصفر، يا ألله كم هو رائع عالم الصفر، إنه اللحظة الوحيدة الشريفة في تاريخ الكون)!!.
يرى فائق أن ما رمى إليه الأستاذ فاتح كان العرب يدعون إليه بطريقتهم (حين كان الشعر والحكمة سليقة فيهم)، فهم إذا ما ظهرت بوادر شاعر كبير في أحد فتيانهم طلبوا إليه أن يحفظ أشعار العرب وديوانهم عن ظهر قلب، وأن يتوجه إلى عرب الصحراء والبادية ليقيم بين ظهرانيهم إلى أن ترسخ فصاحتهم عفواً في لغته، عند ذلك عليه أن ينسى كل ما تعلمه لينْظم من ثم قصائده اعتماداً على شيطان شعره الخاص به وحده دون غيره.
قلت لفائق: كأني بك تربط الثقافة بالعقل والشعور، وتربط الإبداع باللاشعور؟ فأكد أن للثقافة، مثلها مثل أي شيء آخر، أكثر من وجه، ودل على ذلك بقصة واقعية لفتاة معوّقة كانت ترسم رسوماً تضاهي رسوم الفنانين، ثم ما لبثت اللمسة الفنية أن غابت عن رسومها غب شفائها من مرضها العقلي. هنا نلمس ما للتلقائية والعفوية والتداعي الحر وما يجود به اللاشعور من أثر في العمل الفني.
الاستثمار في الفن
قلت لفائق: هل يمكن لرؤوس الأموال الخاصة أن تخدم الفن التشكيلي السوري، ولا سيما بهذا النوع من الاصطفاء لفنانين معينين. وهل تعتقد أن ثمة أهداف غير منظورة وراء دخول هذه الأموال الطائلة، ميدان الفن؟
يجيب فائق: إن رؤوس الأموال هذه افتتحت صالات عرض عدة! وساعدت على ارتفاع أسعار الأعمال الفنية (وإن خامرنا الشك أحياناً في القيمة المرتفعة جدا لبعضها)، وشجعت على اقتنائها وعلى ارتياد معارضها، أنا لا أرى مبرراً لخشية بعضهم وتوجسهم من هذه الظاهرة، فمن حق صاحب المال اختيار الفنان الذي يتفق مع مشروعه ومع ما يطمح إليه في هذا الشأن، وللفنان أيضاً الحق كل الحق في أن يقبل بذلك أو يرفض الانخراط في هذا المشروع... صحيح أن المال يحدد القيمة الاستعمالية أو “التبادلية” للأعمال الأدبية والفنية، ولكنه لا يحدد بذلك ما تقوله هذه الأعمال أو ما يجب أن تفصح عنه، ولا ما هي كائنة عليه.
أما موضوع الأهداف غير المنظورة وراء دخول هذه الأموال، فلنترك للفنان المنخرط في هذا المشروع أن ينفي ذلك أو يؤكده، مع العلم أن هذا الأمر لا يعنيني، ولندع نظرية المؤامرة إلى الأمور الخطيرة التي تمس أمن الوطن وهذه الأمة المغلوب على أمرها.
قلت لفائق: عملت لفترة طويلة أميناً لسر نقابة الفنون الجميلة التي تحولت مؤخراً إلى اتحاد مع وقف التنفيذ. ألا تعتقد أن دور هذا التنظيم النقابي تراجع كثيراً، وأنه بات عبئاً على الفنان التشكيلي وليس سنداً؟
يقول فائق: هناك أسباب كثيرة وراء هذا التراجع من أهمها:
إن النقابة تضم المبدعين وغير المبدعين، وهذا أمر طبيعي في كل نقابة مهنية تعمل على حماية مصالح أعضائها، سواء كانوا مبدعين أم غير مبدعين، وبما أن النقابة تضم كل من يتخرج في كلية الفنون الجميلة والهواة وغيرهم، فإن عدد فنانينا قد جاوز ما في فرنسا وإنكلترا مجتمعتين!! في الإبداع الشعري مثلاً من السهل إسقاط غير الشعراء، (ثقوب مصفاتهم كبيرة جدا بحيث لا يبقى فيها بعد الغربلة إلا الجدير بلقب شاعر)، في حين أن الأمر جد مختلف في الفن التشكيلي، إذ يتدخل الجهل بالفن (تدني ثقافتنا البصرية) والانجرار وراء الدُرْجة (الموضة)، وتنوع الأذواق، والسياسة، والدعاية، والمحسوبيات الخ...
إن إنتاج لوحة أو تمثال لا تعوزه مشاركة الآخرين، والفنان هنا مثله مثل الشاعر (إبداعه فردي)، أما معظم ما تبقى من الإبداع الفني كالمسرح والغناء والموسيقى والسينما، فإنها في الأصل فنون تقوم على الجماعة والمشاركة، لذلك فإن نقابة الفنانين التي تضم المطربين والموسقيين والممثلين، نقابة ناجحة.
إن الانتخاب المحددة مواقيته في النظام الداخلي، والغائب على الدوام، يُشعر أعضاء المجلس الحالي بطمأنينية البقاء الدائم لانعدام المنافسة ومزاحمة مرشحين آخرين، فالأمر سيان سواء كانوا نائمين أم يقظين!! مع محبتي طبعاً للسيد النقيب لنبله وحرصه على تطوير العمل النقابي ومد يد العون لمستحقها، ولكن يداً واحدة لا تصفق!
أما وقد باتت النقابة عبئاً على الفنان التشكيلي، فإن بإمكان من يشعر بذلك أن يتخلص مما يثقل كاهله ويلوّح بيده مودعاً بعيداً عن النقابة!
قلت لفائق: الغالبية العظمى من الفنانين التشكيليين السوريين تسفه النقد الفني التشكيلي المواكب للحركة التشكيليّة السوريّة المعاصرة، وتعتبره قاصراً، أو حتى غير موجود...بماذا تفسر هذا الموقف الإقصائي العدواني من قبل الفنان تجاه النقد والناقد؟
أجاب: لا يزال الفرد عندنا بعيداً عن قبول النقد والنقد الذاتي - مع أن النقد من أهم مقومات تقدم الأمم ورقيها - فالفنان يرى نفسه في عمله! ما يشعره بأن النقد موجه إلى شخصه هو وليس إلى عمله... ولكن هذا لا يعفينا من القول بأن النقد عندنا في أغلبه هواية أو استعراض لثقافة الناقد الذاتية، فإن كان الناقد أديباً جاء نقده للّوحة أدبياً، وإن كان شاعراً جاء غنائياً، وإن كان على دراية بعلم النفس جاء نقده فرويدياً، وهلم جرا... أضف إلى ذلك أن النقد في معظمه نقد يومي عابر تتناوله الصحف والمجلات، وهو نقد يبقى على السطح ويخشى النزول إلى الأعماق...إن بين نقادنا وباحثينا أسماء أثبتت جدارتها مثل د. عفيف بهنسي، د. عبد الله السيد، د. أسعد عرابي، ومجتهدين يصعب علي تعدادهم الآن يتابعون الإنتاج الفني يوماً بيوم، ولكن ما قدمته حتى الآن لم ينعكس لا سلباً ولا إيجاباً على الإنتاج الفني... ويبدو أننا، إضافة إلى النقد في عمومه، بحاجة إلى النقد التاريخي، لأنه لا يحول دون إصدار حكم جمالي سلبي، فبوساطته نفهم تاريخياً ما نشجبه جمالياً. ومع ذلك تعال نقطع شوطاً أبعد حول موضوع النقد... يؤخد على النقد المخافة من أن تصير أحكام ناقد ما ذي سطوة مسلمات وقواعد ونماذج تحتذى...لأن ما يصلح اليوم قد لا يصلح غداً، فكم من كتاب وفنانين وشعراء عدوا أفذاذ عصرهم، فتبين في أزمان لاحقة أن المهمشين والمغمورين من معاصريهم، إن لم نقل المرفوضين المبعدين، هم المبدعون الحقيقيون. خذ على سبيل المثال لا الحصر فان غوخ وموقف النقاد، وبعض الفنانين، وهواة جمع الأعمال الفنية، من نتاجه! حتى كبار المبدعين قد يخطئون في أحكامهم، فهاهو فيكتور هوغو في واحدة من رسائله يقول عن ستاندال: “ مغامر بنى لنفسه نوعاً من الشهرة بقوة الدس والوقاحة... لقد أراحتنا منه إصابة بالسكتة الدماغية...يدوم مونتسكيو بما كتبه، ولكن ستاندال لا يمكن أن يدوم “. وفي المقابل نقرأ للناقد “كلود روا” في كتاب له عن ستاندال ظهر في سبعينيات القرن الماضي: “ كتب ستاندال روايتين تعدان من أندر ما أنتجه الأدب من أعمال فنية في منتهى الكمال. “
إن لكل زمان، أو عصر، أو مرحلة، ذهنية ومسلمات وقواعد مألوفة يؤمن بها الأفراد وينتهجونها، وللكتاب والفنانين والمبدعين أيضاً ثمة قواسم مشتركة تتعلق بطبيعة اهتماماتهم الفنية والأدبية والموسيقية... وما يؤلفونه وينتجونه يتفق في كثير من الوجوه وهذه القواسم المشتركة، والنقد عادة يقوم معتمداً على هذه المعطيات لا يتجاوزها إلا نادراً، ما يدفع النقاد إلى إغداق المديح والثناء على من توافرت في نتاجه تلك الشروط، فالشاعر الذي يتغنى بالوطن والمرأة الأم والمقاومة يفوز بالتقريظ والإعجاب، وإن لم يأت بشيء جديد في مضمار الشعر واللغة والصور و... وبالمقابل إذا تقدم أحد المبدعين بعمل خرج به على القيم الجمالية القائمة، والسائد المألوف، والخطاب الثقافي المتنفذ، ودخل في دائرة اللامفكر به...وقع النقاد في حيص بيص، وسارع معظمهم إلى الحط من قيمة هذا الملعون المتمرد على السائد، بل وإلى استبعاده ونفيه، باستثناء قلة نادرة منهم استطاعت ببصيرتها وحدسها أن تستشف وتستشرف ما في هذا الجديد من إرهاصات... إن نبل الموضوع وجلاله لا يعني بالضرورة جودة العمل الفني أو الأدبي، فكم من أعمال تاريخية قضى صانعوها شهوراً في إنجازها، ما هي إلا أعمال ساقطة جمالياً، في حين أن طبيعة صامته لأحد الفنانين الكبار، أنجزها في ساعة من النهار، لا تفارق ذاكرتنا، وذلك لأن فيها فتحاً جديداً في التشكيل.
ودفعاً لسوء الفهم أقول باختصار: إن النقد الفني والأدبي (وتاريخ الفن وتأريخه وفلسفته...) ضرورة، والعلاقة بين النقد والإبداع علاقة ديالكتيكية، كعلاقة اليد بالعقل، فكل منهما يفيد من الآخر ويطور ما أخذه، ومعاً يكتشفان الجديد.