و..ما الذي يُغوي الشياطين في التفاصيل لتكمن فيها؟؟!، و..طالما هي - الشياطين كامنة - أي لا خوف منها، صحيح أنها قد توحي بالترصد، و..التصيّد، غير أن لم تغويها، بتنفيذ الفعل - وهنا نتحدث على سبيل المجاز - فهي ستتركك بشأنك.!!
مقولة الألماني
صحيح يُفهم من مقولة الألماني صاحب العبارة، إن الاتفاقات العامة، غالباً ما تنزعها، أو تُخربها «طاولات الحوار» بالمفهوم المعاصر، أي البحث بالقضايا التفصيلية، تماماً كما تسحب «التعليمات التنفيذية» كل خيرات القوانين و..المراسيم التي تُصدرها الحكومات..!
كل ذلك صحيح، في عالم الاقتصاد و..السياسة، غير إن التفاصيل في عالم الإبداع، و..تحديداً الأدب، فإن جماليات هذا الإبداع تكون كامنة بالتفاصيل، و..ليس في الأحكام العامة، الجماليات تكون في انزياحات المعاني عن سياقها الذي تكاد تستنفد كل متعها من تكرارها العادي، فيأتي «التفصيل» المغاير و..المفارق للعادي، ليكون مجمل تفاصيل النص، أو ضربات الريشة في اللوحة، التي تأخذ في حسبانها الظل و النور و..الخطوط، و..غير ذلك، و من ثم لتقدم تفاصيلها الإبداعية، و..الأمر كذلك ينسحب على تفاصيل الإبداع في الرواية، و العرض المسرحي، و..صولاً إلى الفيلم السينمائي، و..من ثم يكون «الكامن» في التفاصيل هو الإبداع عينه.!!
إن كانت «الشياطين» تكمن في التفاصيل، فذلك لبعض الوقت، أو ربما كغواية لالتقاط جمالية ما، هي تفصيلة جمالية من تفاصيل كثيرة، ذلك عن ثمة «ملائكة» أيضاً كامنة في التفاصيل تطرد الشياطين إذا ما حاولت الحضور..!!
ربما من هنا، و..عند بحثهم عن بواعث الإبداع عند الشعراء خلال عصور ما قبل الإسلام، كان أن نسب هؤلاء الباحثين قصائد الشعراء إلى فعل الشياطين، و..تحديداً شياطين وادي عبقر في الجزيرة العربية، تلك الشياطين، و..التي حسب زعمهم كانت توحي للشعراء بقصائدهم، و..معلقاتهم الشعرية، و..الحقيقة كما صار معروفاً إن حالات التأمل التي كان يقضيها الشعراء في ذلك الوادي، هي من كانت تُلهم الشعراء قصائدهم، و..من يومها عندما «تحرن» القصيدة، و..لا يستطيع الشاعر قيادتها، و إنجازها، يُقال بإن «شيطان الشعر» قد خذله، و..لا أعرف لماذا تمّ نسب ذلك الإبداع للشياطين، و..ليس للملائكة.؟!!
من هنا أيضاً، فإنّ الإبداع يكمن في التفاصيل، و..الاهتمام بهذه التفاصيل، كما يرى الكثير من النقاد، ليس إحساساً بالأمان، بل هو السعي باتجاهه، فأنت ترتب حجرتك الخاصة، تحاول اكتشاف بدائل لضبط فوضاك الداخلية، و فحص هذه التفاصيل أو وصفها هو وصف للحالة التي يكون عليها.
مقولتان
ماذا يبقى في اللوحة التشكيلية إن لم نغص في تفاصيل اللون، و..ماذا يبقى في القصيدة إذا لم ندخل في تفاصيل المجاز من صور، وانزياحات للمفردات من سياقها العادي، ماذا يبقى من الرواية إذا لم ندخل في تفاصيل البنية الروائية، و..بما يحمله كل ما تقدم من حمولات التأويل و..القراءات المتعددة التي تُغني النص سواء كان نصاً سردياً أم مشهداً بصرياً، و..ذلك بزحمة جماليات التفاصيل الكامنة فيه ؟؟!!
ثمة الكثير من المقولات الأخرى قيلت ذات حينٍ، ثم كان أن أسس لها كورس يرددها طول الوقت، و..هنا نُذكر بجملةِ أثيرية لنفوس الكثيرين من النقاد في المشهد النقدي ليس السوري وحسب، بل حتى في مشهد الثقافة العربية، و..هي «الاهتمام بالتفاصيل اليومية» فيما يُشبه ردة فعلٍ على «ميتافيزيقية» النص الإبداعي الذي ساد لكثيرٍ من الوقت، و.. لكثرة مارُددت الجملة أصبحت «شعاراً»: «الاحتفاء بالتفاصيل اليومية» و..كان أن تشكّل لصاحب هذا القول معشراً من «القوالين» يحتفون بهذا «الاحتفاء» على طول صفحاتٍ كثيرة.
جملة أخرى ستصيرُ هي الأخرى أقرب ما يُشبه الشعار في المشهد النقدي السوري والعربي وهي مقولة «الرواية ديوان العرب»، و.. رغم إن مثل هذا الكلام يحتاج إلى الكثير من الأدلة، فكلّ ما في الأمر أنه جاء خلال عقد التسعينات، و.. تحديداً أواخر الثمانينات، من قال: إن «الرواية هي ديوان العرب» و من ثم كان أن تشكّل خلفه كورساً هائلاً يردد وراءه طول الوقت: «الرواية هي ديوان العرب» دون أن يتثبت أحد من ذلك، و..كأن باستطاعة إصدار رواية واحدة ناجحة أن تسحب البساط من تحت أقدام القصيدة، وهي - القصيدة - الذي جلست عليها منذ أكثر من ألف وخمسمئة من السنين..!!
alraee67@gmail.com