تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


صُنــاع حضـــارة

منوعات
الأحد 24-1-2016
بقلم الدكتور هزوان الوز

لصاحبِ أكثرِ النظرياتِ أهميةً في علمِ الفيزياءِ في القرنِ العشرينِ، نظريةِ النسبيةِ، الألمانيّ ألبرت إينشتاين، قولُه: “أولئكَ الواقفونَ على قمّةِ الجبلِ لم يهبطوا منَ السماءِ هناكَ”. وقيلَ إنّ الملايينَ منَ البشرِ رأوا التفّاحةَ تسقطُ، ولكنّ نيوتنَ فقطُ هو مَن تساءلَ عن السبب.

قمّةُ الجبلِ، بمعناها المجازيّ، نزوعٌ فطريٌّ في الإنسانِ، ولكنَّ هذا النزوعَ لا يكفي وحدَهُ ليجدَ أيُّ إنسانٍ نفسَه هناكَ، أيّ ليبلغَ تلكَ القمةَ، بل الإنسانُ الذي يحوّلُ ذلكَ النزوعَ إلى متواليةٍ من الأسئلةِ، وهذهِ الأسئلةُ نفسُها إلى متواليةٍ من العملِ، فهذا العملُ نفسُه إلى إبداعٍ، ثمّ هذا الإبداعُ إلى فرادةٍ، فهذه الفرادةُ إلى التميّز، حتى تكونَ القمّةُ التي لا يمكنُ بلوغُها بالطموح وحدَه، ولا الحلمِ وحده، ولا الأسئلةِ وحدها، بل بذلك كلّه، الطموحِ والحلمِ والأسئلةِ، وقد تخلّقَ جهداً مستمراً، وعملاً دؤوباً، وزرعاً حانَ حصادُه.‏

لقد أنجزتِ الأممُ والمجتمعاتُ الحضاراتِ التي تخصُّها بفضل مأثرتيْن: الأسئلةِ التي تهزُّ عروشَ الظواهرِ الطبيعيةِ والإنسانيةِ المستقرّةِ، والبحثِ المستمرِ عن إجاباتٍ لتلكَ الأسئلةِ، ولولا هاتينِ المأثرتينِ لظلَّ الإنسانُ جزءاً من الطبيعةِ، بل لظلّ تابعاً لها، ومكتفياً ببدائيته، ولما كانتِ الاكتشافاتُ التي تنعمُ البشريةُ بها الآنَ: الأبجديةُ، والأرجوانُ، والنارُ، والزراعةُ، والحديدُ، والزجاجُ، والعجَلةُ، والبنسلينُ، والكهرباءُ، وسوى ذلك ممّا غيّرَ حركةَ التاريخِ، ودَفَعَها إلى الأمام، وجعلَ الإنسانَ فاعلاً في الطبيعةِ حولَه، لا منفعلاً بها، أو متلقّياً لها، وسواهُ ممّا نفاخرُ، نحنُ أبناءَ سوريّة، بأننا كنّا جزءاً منه، بل كان أجدادُنا الأوائلُ أبدعوه، وقدّموا للإنسانيةِ عبْرهُ أروعَ الأمثلةِ على الإنسانِ المنتجِ للحياة، بل المبدعِ، بل المتميّزِ.‏

وإذا كانَ من الفطريّ أن يبحثَ الإنسانُ عمّا يحقّقُ له الطمأنينةَ في حياته على غيرِ مستوى، فإنّه ما ليسَ فطرياً هو البحثُ عمّا يعني قلقَه الدائمَ على مستوى المعرفةِ، أي فيما يعني تثميرَ وجودِه الثقافيّ في هذا المجالِ أو ذاكَ، وهو ما يدفعُه للخلاصِ من أسْرِ العطالةِ التي تجعلُهُ فرداً في جوقةٍ، وما يطلقُه ليكونَ جوقةً بنفسِه، بل وجوداً بنفسِه، وهذا الأخيرُ لا يمكنُ أن يحدثَ إلا بعدَ حصيلةٍ من الدأبِ والاجتهادِ والمعرفةِ المتجددةِ دائماً، وإلا بعدَ أن تتمَ ترجمةُ هذه الحصيلةِ إلى وجودٍ ناطقٍ بالحياةِ، وذلكَ هو الاختلافُ الذي يميزُ إنساناً من آخرَ، والذي يطلقُ إمكاناتِه في فضاءاتٍ لا حدودَ لها من الأحلامِ، وهذه الأخيرةُ في فضاءاتٍ لا حدودَ لها من التحقّقِ.‏

ومهما يكنْ صحيحاً أنّ التميّزَ يعني الاختلافَ، فإنّ هذا الأخيرَ ليكونَ تميّزاً بحقٍّ، بل وثيقَ الصلةِ بمفهومِ التميّزِ بحقٍّ، فيجبُ أن يعنيَ الاختلافَ بمعناهُ الإيجابيِّ، أيّ بالمعنى الذي يتجلّى الاختلافُ معه بوصفهِ تعبيراً عنِ الأكثرِ إنتاجاً لقيَم الحقّ والخيرِ والجمالِ، أي القيمُ التي تبني الإنسانَ، وتبدعُه أكثرَ إنسانيةً، وتحقّقُ له وجوداً حيوياً ومثمراً ومخصّباً للمدنيّة، والحضارةِ، والرقيِّ، والتطوّرِ دائماً.‏

لقد قيلَ: “متى ما أعلنتَ تمرّدكَ على الكسلِ بدأتَ رحلة التميز»، والحقُّ أنّ هذا القولَ يختزلُ في داخله قيمةً تربويةً عاليةً هي أنّه بينَ الاستسلامِ للكسلِ والبحثِ عن التميزِ هو تلكَ المسافةُ التي تفصلُ ما بينَ العطالةِ والحركةِ، فالأولى موتٌ وليستِ الثانيةُ نقيضَه فحسبُ، أي حياةٌ، بل معنى الحياةِ وجوهرِها وسرِّ أسرارِها، بل قوّتُها الدافعةُ، والمبدعةُ، والمخصّبةُ لقيمة التميّز.‏

للشاعرِ العربيّ القديمِ عنترةَ بنِ شدّادٍ قولُه في مطلعِ معلّقتهِ:‏

هل غادرَ الشعراءُ مِن مُترَدَّمِ أمْ هل عرفتَ الدارَ بعدَ توهّمِ؟‏

وكانَ يقصدُ، كما يجمعُ على ذلك جمهرةٌ من النقّادِ، أنّ الشعراءَ لم يدعوا شيئاً إلا قالوه، وأنّه، أيّ الشاعرُ، وهو يسألُ، إنّما كانَ يُضمرُ في سؤالِه نفياً لذلك، لأنّه لو لم يكنْ مُوقناً بأنّ نهرَ الإبداعِ لا يتوقّفُ عن التدفّقِ والجريانِ، لما كلّفَ نفسَه عناءَ الشعر. ولشاعرِ الفلاسفةِ وفيلسوفِ الشعراءِ أبي العلاءِ المعرّي ما يؤكّدُ أنّ مياهَ نهر الإبداع متجدّدةٌ بالضرورةِ مهما خُيّلَ لأحدٍ أنّها ثابتةٌ في المكانِ، أي قولُه:‏

وإنّي وإنْ كنتُ الأخيرَ زمانُه لآتٍ بما لم تستطعهُ الأوائلُ‏

وهو قولٌ يختصرُ داخلَه، محتوىً ودلالةً، أهمَّ قيمةٍ في التميّز، أي قيمةُ الإيمانِ بقدرةِ الإنسانِ على إنجازِ الجديدِ وإبداعهِ مهما كانَ منْ أمرِ ما أنجزَ سابقوه، وهوَ ما يمثّلُ لنا، في وزارة التربية، مَثلاً نعملُ به ومن خلاله على خلْقِ جيلٍ لا تعنيه الشهادةُ الدراسيةُ وحدَها، بل هذه الشهادةُ بوصفها المدخلَ إلى التميّز، والجسرَ الذي لا بدّ من عبوره ليكونَ الطالبُ مبدعاً فيما بعدُ، ومنتجاً بآنٍ، ومشروعَ عالِم أو مفكّرٍ أو أديبٍ، وهو أيضاً ما يدفعُنا دائماً إلى تطوير أدائِنا، ومهاراتِنا، في غيرِ مجالٍ، لتكونَ مؤسسةُ التربيةِ في وطننا مؤسسةً منتجةً للكفاءاتِ، لا مؤسسةً منتجةً لحمَلَة الشهادات، ولعلَّ دأْبَنا منذُ سنواتٍ على تغييرِ المناهجِ وتطويرِها واحدٌ من أمثلةٍ كثيرةٍ تؤكّدُ ثقتَنا بزملائِنا المدرّسينَ وبأبنائِنا الطلبةِ، وبهما معاً من أجلِ أن نكونَ لائقينَ بالهويّة الوطنيةِ التي نتشرّفُ بها، والتي ميزتِ هذهِ الجغرافيةَ العظيمةَ، سوريةُ، من سواها منَ الجغرافيةِ الإنسانيةِ عبرَ التاريخِ، والتي أثبتَ السوريونَ، عبرَ التاريخِ أيضاً، أنّهمُ صنّاعُ حضارةٍ، ومدنيّةٍ، وأنوارٍ للبشريةِ جمعاءَ.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية