حصل ذلك بعد أن أكدت التصريحات الصادرة عن البيت الأبيض شيئاً بقي طويلاً موضعاً للريبة والشك,وهو أن الولايات المتحدة تخطط لبقاء عسكري طويل الأمد في العراق.
وفي الحقيقة يعد هذا تطوراً استراتيجياً ذا أهمية كبرى,إذ يمثل اعلاناً صارخاً من قبل الإدارة الأميركية,بالرغم من المصاعب الجمة التي تواجهها هناك في العراق حالياً.
ولعل أكبر مثال على ذلك كان شهر أيار الماضي الأكثر دموية في العراق منذ الغزو حيث قتل 119 أميركياً,ومع هذا تنوي إبقاء سيطرتها على العراق وعلى احتياطاته النفطية الكبيرة.
بلا شك سينتبه الى هذا الشيء جيران العراق والدول المتعطشة للنفط وشركات النفط الضخمة.
ففي زيارته لمقر القيادة الأميركية في المحيط الهادي الواقعة في هونولولو أخيراً قال روبرت غيتس- وزير الدفاع الأميركي: إن الولايات المتحدة تتطلع الى وجود طويل ودائم في العراق. يتم من خلال ترتيبات ثنائية مع الحكومة العراقية على شاكلة النموذج الكوري الجنوبي,أو على شاكلة ترتيباتنا الأمنية مع اليابان.
ويذكر في هذا الاطار,أن هناك قوات أميركية موجودة في كوريا الجنوبية منذ انتهاء الحرب الكورية (1950-1953) وقوات أخرى في اليابان منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
وكان المتحدث باسم البيت الأبيض توني سنو قد أكد أن الرئيس بوش (يريد أن يرى بقاء طويل الأمد للقوات الأميركية في العراق يتم بناء على دعوة الدولة العراقية لأن الحرب الدائرة في العراق وهي الحرب الأوسع نطاقاً ضد الإرهاب ستستغرق وقتاً طويلاً.
إن مثل تلك التصريحات والتخطيط العسكري الذي يرافقها,تنسف وبشكل صارخ الجدل الدائر حالياً في الكونغرس والصحافة, وبين الجمهور الأميركي العادي إمكانية تحديد الإدارة الأميركية موعداً نهائياً لانسحابها من العراق.
هذه التصريحات عن البقاء في العراق تظهر بوضوح أن إدارة بوش تنظر لما هو وراء ذلك بكثير وهذا يستدعي طرح السؤال البديهي التالي: ما الدوافع التي تقف وراء ذلك الطموح البعيد الأمد?
لا شك أن ابقاء السيطرة على مصدر مهم وحيوي من مصادر الطاقة في وجه المنافسين المحتملين مثل الصين,يمثل دافعاً من بين تلك الدوافع , فلو لم يكن نفط في العراق لما كانت الولايات المتحدة الآن هناك.
ويتمثل الدافع الثاني في رغبة الولايات المتحدة باظهار حضورها القوي في منطقة الخليج المنتجة للنفط,وأبعد من ذلك,المنطقة الواقعة وراءها الممتدة من آسيا الوسطى الى شرق افريقيا.
اضافة الى ذلك توجد دوافع أخرى وهي مواجهة ايران,وتعويض القواعد التي فقدتها الولايات المتحدة في مناطق أخرى من المنطقة بأخرى جديدة في العراق.
ولعل الدافع الأهم وليس الأقل أهمية في هذا الاطار,هو حماية إسرائيل عند اللزوم.
هذه هي الدوافع لاستمرار الوجود العسكري الأميركي في العراق,وهي نفسها الدوافع التي جعلت الإدارة الأميركية تغزو العراق وتحتله منذ أكثر من أربع سنوات ونصف السنة.
وإذا ما نظرنا الى القضية من هذه الزاوية,فإننا سندرك بالرغم من كل الأحاديث عن تحقيق الاستقرار,والترويج للديمقراطية.
فإن المشروع الأميركي في العراق,يمثل بشكل جدي مشروعاً (كولونيالياً COLONIAL) استعمارياً جديداً, أو مشروعاً امبريالياً كذلك الذي عانت منه المنطقة على ايدي فرنسا وبريطانيا سابقاً.
وكلمة حق تقال,فإن الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر كان من أكبر المنتقدين لإدارة بوش,وكان بصيراً وواضحاً عندما قال في الثالث من شباط عام 2006:
ثمة أناس في واشنطن لا يريدون اطلاقاً سحب القوات العسكرية الأميركية من العراق,بل يتطلعون الى بقائها لمدة عشر سنوات أو عشرين سنة أو ثلاثين سنة للمستقبل.
والسبب الذي ذهبنا من أجله الى العراق هو اقامة قاعدة عسكرية دائمة في الشرق الأوسط,مع العلم أنني لم أسمع اطلاقاً من بين قادتنا العسكريين من يقول إنه سيلتزم أمام الشعب العراقي بأنه خلال عشر سنوات من الآن. لن تكون هناك قواعد عسكرية للولايات المتحدة في بلاد الرافدين.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل هذه الطموحات الأميركية واقعية أم أنها ستزيد مشكلات جديدة للولايات المتحدة,وتفاقم من سوء علاقاتها التي وصلت الى درجة مزرية مع معظم بلدان العالمين العربي والاسلامي?!
يذكر في هذا الاطار,أن الجنرال- أنتوني زيني- القائد السابق للقيادة المركزية الأميركية قد وصف فكرة اقامة قواعد عسكرية دائمة في العراق بأنها فكرة غبية (astupididea).
وهي كما تبدو غير مقبولة سياساً , والأهم من ذ لك أنها ستشوه صورتنا في المنطقة حيث سيعتقد الناس هناك أن ذلك كان هو هدفنا منذ البداية. وفي هذا الشأن شجبت رئيسة مؤسسة كارينجي للسلام الدولي- جيسكا ماثيوس- فكرة اقامة قواعد دائمة في العراق ووصفتها بأنها فكرة سيئة بدرجة كارثيةdisastrous لأنها تؤكد شكوك العراقيين من أن الولايات المتحدة شنت الحرب بهدف وضع يدها على ثروتهم النفطية والسيطرة على المنطقة واقامة حكومة من الدمى في العراق.
وبالرغم من كل ذلك فإن عملية بناء القواعد العسكرية الأميركية قائمة على قدم وساق وبتكلفة تزيد على مليار دولار سنوياً.
وخلال السنوات التي عقبت الغزو,كانت هناك تقارير صحافية عديدة تتحدث عن قواعد ضخمة بنتها الولايات المتحدة في العراق وتواصل توسيعها. فهناك قاعدة تدعى -بلد- الضخمة التي تحتل مساحة 14 ميلاً مربعاً وتبعد 40 ميلاً الى الشمال من بغداد .
وكانت موقعاً للكلية الجوية العراقية. وهناك قاعدة أضخم تدعى- الأسد- وتشغل مساحة 19 ميلاً مربعاً.
وتوجد قاعدة- الطليل - وقاعدة الصقر وقاعدة القيارة في الشمال وغيرها الكثير.......
وكانت الولايات المتحدة,بعد غزوها للعراق بزمن قصير,أقامت مئة وعشر قواعد هناك وتهدف الخطة الحالية على ما يبدو الى تعزيز وتقوية القواعد الأربع عشرة الدائمة الواقعة في كردستان العراق.... وفي مطار بغداد,ومحافظة الأنبار,وفي المداخل الجنوبية للعاصمة بغداد .
أخيراً بقي أن نسأل :
هل إن بناء سفارة أميركية تستوعب ألف موظف على مساحة مئة دونم من الأرض على ضفاف نهر دجلة,لتكون أكبر سفارة أميركية في العالم,يشير الى انسحاب أميركي مبكر من العراق? الجواب لا بالتأكيد.