قد يأتي وقد لا يأتي...) وهي عبارة تكثف روح الكتاب إلى حد بعيد, حيث القلق من حاضر مضطرب يشي بمستقبل أكثر اضطرابا ربما تكون العلمانية أولى ضحاياه, فهي تتراجع أمام دعاوى ومشاريع ماضوية متحولة إلى مجموعة من الشعارات النخبوية فيما الجماهير مأخوذة بخيارات اشد إغواء وأكثر سخاء في الوعود. ومع ذلك فالخطيب يصر بكثير من الحماس على أن العلمانية أو ما يسميه بالدولة المدنية هي الخيار العقلاني الوحيد الكفيل ببقاء المجتمعات العربية متماسكة, محمية من التشرذم, وقابلة للتطور.
يبدأ المؤلف باستعراض موجز للحراك الاجتماعي والسكاني في المنطقة العربية وبالتحديد انطلاقا من لحظة التحول من الإطار الإمبراطوري (السلطنة العثمانية) القائم على اللحمة الدينية إلى كيانات قائمة على اللحمة الوطنية القومية.
كان الدين الإسلامي هو الرابط الاجتماعي والعقائدي للمجموعات البشرية التي كانت تعيش في منطقة انتشار ونفوذ الحضارة الإسلامية وعندما وهن هذا الرابط كعاقد اجتماعي اثر ظهور البرجوازية وفكرتها عن السوق والدولة القومية, تفتت الإمبراطورية العثمانية وفيما استطاع الأتراك بزعامة كمال أتاتورك إنشاء دولتهم القومية فقد عجز العرب عن ذلك, ولم يستطيعوا أن يشكلوا إلا ما دعي دولا قطرية بدا صعبا أن تستطيع إنشاء لاحمها الوطني المدني الذي يكفل تأسيس مجتمع ذي هوية راسخة, ولاسيما في المناطق (التي كانت ما تزال مناطق أقوام وطوائف شبه منغلقة لم تصهرها برجوازية أو صناعة أو حركة تنوير جذرية...)
ومع ذلك فإن دولاً ومنها الدولة السورية وهذا هو ما يعني المؤلف بالدرجة الأولى قد استطاعت أن تقيم كيانها أساساً على عاقد جديد مختلف عن العاقد الديني ألا وهو القومية العربية وفكرة العروبة, هذا بالضبط ما جمع حلب إلى دمشق واللاذقية إلى السويداء...ومن وحي هذا العاقد ترسخت شيئا فشيئا لحمة وطنية عززتها مشاريع اقتصادية وشبكة خدمات وبرامج ثقافية وجيش وإدارة موحدتين وكلها أمور استطاعت أن تحقق دمجا حقيقيا أيا كان الرأي في ممارسات السلطات المتعاقبة وتوجهاتها.
هذا هو العاقد الحقيقي الذي قامت عليه الدولة السورية وهو عاقد لازال صالحا وفعالا ومرشحا مؤكدا للاستمرار مما يعني أن أي دعوة لإيجاد عاقد آخر, ديني تحديدا, هو بمثابة العودة إلى الوراء.. إلى فكرة انتهت وتبددت (وإلا لما كانت الإمبراطورية العثمانية قد انهارت), وبالتالي فان هذه الدعوة ليست بلا معنى فقط بل هي دعوة من شأنها تخريب الكيان السوري كما معظم الكيانات العربية الأخرى, فالعاقد الديني لا يصلح لهذا المكان القائم على التعدد والتنوع والذي يحتاج بالضرورة إلى عقد وطني مدني يستوعب جميع المكونات ويوائم بينها.
يخلص الخطيب في ختام مجادلته هذه إلى أن العلمانية ليست شعارا أو خيارا مترفا إنما ضرورة للاستمرار وطريقا امثل لحماية المجتمع من التشرذم الذي بات يطال كيانات كثيرة في المنطقة.
يتميز الكتاب بأسلوب بسيط وشيق يسنده ميل إلى التوثيق حيث الحجج مدعومة بكثير من الأمثلة التاريخية.
يقع الكتاب في مائة صفحة
من القطع المتوسط
وهو صادر ضمن سلسلة أفكار.