هي مفتوحة السياق والمعنى والدلالة على كل ما يحيط بالإنسان من ظواهر,سواء أكان متحضراً أو بدائياً,متوحشاً,يعيش أسطورة وجوده...
وما ينطوي عليه ذلك الوجود من احتمالات القرابة,ومنظومة عاداته وتقاليده وسائر أنظمته الاقتصادية والاجتماعية ربما سعى الباحثون ومنهم ادموندليتش لاستقصاء,ليس البنيوية ووظيفتها بل أكثر من ذلك الى تحديد مكانة كلود ليفي شراوس (كممثل لاختصاص أكاديمي,هو الأنثربولوجيا الاجتماعية.
فضلاً عن أهميته في (جدية أفكاره وأصالتها,وطرائقه الجديدة في النظر الى الوقائع المألوفة,وماسيلمسه القارئ العام من جماليات المغامرة..
كلود ليفي شتراوس البلجيكي الأصل الذي ولد في باريس عام 1908 كان مشغولاً بوضع سيرته الذاتية في اطار بحثي يقوم على الدراسة الوصفية لأسلوب الحياة ومجموعة التقاليد والعادات والقيم والأدوات والفنون والمأثورات الشعبية لدى جماعة أو مجتمع خلال فترة محدودة ومنطلقه الشعوب البدائية (كنماذج مصغرة لما هو جوهري لدى النوع البشري ككل)...
حيث تمنحه الأنثربولوجيا اشباعاً فكرياً,فهي تصل -كما يقول شتراوس -بين تاريخ العالم من جهة,وتاريخه الشخصي من جهة أخرى,وتزيح النقاب عن التحفيز المشترك لدى كل منهما في آن معاً .
لكن شتراوس في انجازاته التي برزت علاماتها في أسطوريات والمداران الحزينان,والطموطية,والفكر البري,والعرق والتاريخ,والنيء والمطبوخ الذي أعيدت طباعته عن الفرنسية عام .1970
وفيه يرى أن الأسطوة المفتاحية هي تحويل لأساطير أخرى,ويتحدث مطولاً عن الطبيعة الثنائية للعقل الأسطوري,بأن ثمة ما يبقى بغير انجاز.
ويؤكد أن الهدف النهائي لعلم الأساطير هو الاسهام في معرفة الفكر المموضع وآليته,فالأسطورة تقهر التناقض القائم بين الزمن التاريخي والاستمرار الخالد.
يحيلنا الى سؤال ملتبس: هل يشعر القارئ بالدوار,أو يحس بالنفور وهو يدور في دوامة من الكواكب ومجموعات النجوم والشعوب والأنواع الحيوانية والنباتية وأشكال التنظيم الاجتماعي والطقوس والأساطير?!
سؤال ستتعدد الاجابة عليه في أعماله الضخمة اللاحقة,البالغة الضخامة والصرامة حيث (التعقيد المربك والمعرفة الموسوعية) السمتان اللتان لاحظهما الأنثربولوجي الشهير أدموندليتش,وهو يتقصى آثار كلود شتراوس في سياق انتقاده للبنيوية.
في شباط 1939 شرع شتراوس بكتابة رواية,مالبث أن اكتشف عدم قدرته على ذلك لنقص في مخيلته البصرية,ونفاد صبره التفاصيل الصغيرة وما تبقى من تلك الرواية,هو عنوانها (المداران الحزينان).
ترى هل استأنف شتراوس ذلك النزوع الروائي,المغلف بالوصف الشعري للكون في مداريات حزينة الكتاب الضخم بفصوله التسعة,والذي يرسخ معرفة علمية وثقافية تمتد لأزمان وأمكنة أخرى,مطارداً فراديس المعنى في الاكتشاف الجغرافي والأناسي,بذات الوصف الشعري الذي يعتقده صفة طبيعية للعقل البشري,ولا بد أن يبقى كامناً في مكان ما داخل البنى الخفية في لاوعينا الجمعي.
يقول شتراوس: أنا أكره الأسفار والمستكشفين,وهاآنذا أتهيأ لرواية رحلاتي,وبالطبع فإن رواية الرحلات ستذهب الى البحث عن أسطورة مجهولة,أو عادات أو قائمة بالأسماء القبلية وغير ذلك,مثقلة بذلك العالم المخادع,المشجع على وضع مؤلفات تركيبية,ظل هدفها كما يقول شتراوس خدمة وضعية نقدية مخيبة للآمال.
لا سيما أن الدراسة الوصفية لأسلوب الحياة لفئة ومجتمع خلال فترة زمنية محددة ستجعل من حرفة (الأنثوغرافي) بعيدة عن المغامرة ! هكذا يصف رحلته وما شاهده,بحثاً عن العالم الجديد (بو-أو-نوار-غانا بارا-سان باولو -بارانا-بانتانال- ناليكة) ذلك أن امتياز الوصول الى شعوب بكر,لم تخضع لأي استقصاء جدي ومحفوظة بصفة كافية,بفضل الفترة الوجيزة التي انقضت منذ بداية ابادتها كان كافياً ليجعل من شتراوس أنثوغرافيا بامتياز فهو يدلل بنادرة يرويها بقوله:إذا أفلت هندي بأعجوبة من إبادة القبائل الكاليفورنية التي كانت ما تزال متوحشة فعاش لسنوات مجهولاً من الجميع,في جوار المدن الكبرى,ناحتاً من الحجر رؤوس سهامه,التي كانت تتيح له الصيد لكن الطرائد اختفت شيئاً فشيئاً.
فاكتشف هذا الهندي عارياً يتضور جوعاً,في مدخل احدى الضواحي,وانتهت به الحياة بواباً لجامعة كاليفورنيا.تماماً.
كان شتراوس يقف في كل أسفاره لاكتشاف العام الجديد على حالة من الوجد والشغف,لمحاته الخاطفة لمدينة أو لمنطقة أو ثقافة الانتباه,سواء تعلق الأمر (بمدن العالم القديم المحنطة,أم بالمدن الجنينية للعالم الجديد).
كيف سينظر الى مفهوم العلاقات الانسانية لإزالة الاستبعاد هل بالرهان فقط على مفهوم الاستقلال والزمن ?!
وعلى ذلك تأخذ انطباعات شتراوس العميقة والغامضة عن المكان الذي يطؤه بحدسه أولاً نزوعاً روائياً,لا يتوسل التقانات الأسلوبية,قدر ما يتسع للوصف والشجن,ولعل جملة أو تركيباً يضمر حزن ذلك العالم الكبير الذي(لا يركن الى حل القضايا الكبرى,كقضية المصير الانساني أو مستقبل المجتمعات البشرية).
هذه زاوية نظره الى البنيوية بوصفها فلسفة عصر ليحدد موضوع دراسته,بتعاطفه مع ازالة الاستعمار واستغلال الشعوب فالأنثربولوجيا تجعل من الضرورة فضيلة.
يقول شتراوس وهو يتأمل,المتوحشين والطيبين,والأحياء والأموات,باحثاً عن التعبير الأكثر صدقاً وتأثيراً عن الحنان الانساني. في مراحل رحلته التي يقترن فيها الواقع بالمتخيل,وتتطير فيها صرامة العلم الى مايشبه رواية ذات ايقاع لغوي باذخ بشعريته وبتراجيديته الطليقة,ثمة بطل يتماهى مع مايشاهده ويدركه,يعود متألماً من تناقض الانسانية,بحثاً عن المعنى المستحيل من اندثار حضارة أو سقوطها,ليقول بأسى:
(وداعاً للرحلات,وداعاً للمتوحشين) هل هي أسطورة الأنثربولوجيا ودروسها المفارقة النبيلة?!
مداريات حزينة صورة بحث عن غمزة عين مثقلة بالتسامح الذي يقوم على تبادل لا إرادي مع قطة,إنها موجع البدايات بل أسئلتها الأولى وبراءتها البكر ودهشتها اليقظة المبصرة إزاء قيم تتهافت وعالم من حولنا يفيض شبهة ويقطر حزناً ..
الكتاب: مداريات حزينة
تأليف :كلو ليفي شتراوس
ترجمة: محمد صبح
الطبعة الثانية 2007
الناشر:دار كنعان للدراسات والنشر والخدمات الإعلامية