تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الرأسمالية المعولمة ( بين الصراع الطبقي وصدام الحضارات)

آراء
الاربعاء 27/6/2007
د. منذر شباني

ربما سيكون من الصعب على علماء الاقتصاد المعاصرين الاجابة عن سؤال يستفهم عن بنية الرأسمالية المعولمة

التي تطبق سيطرتها على العالم اليوم وربما يكون في رأي نقاد العولمة شيء من الحقيقة عندما يصفون هذه الرأسمالية على أنها رأسمالية مضاربات مالية باعتبارها قد تجاوزت مقولات الانتاج والاستهلاك والتصنيع وفائض الانتاج وأن هذه الرأسمالية حولت كوكب الأرض إلى ( كازينو للمضاربات المالية) وربما علينا أن نعترف بأن تطور الرأسمالية العالمية كان سيقودها إلى هذا الشكل الهلامي وغير الواضح إلا أنه من الصعب قبول فكرة أن الصراع الذي تقوده هذه الرأسمالية اليوم هو صراع ثقافي أو كما يطلق عليه منظرو العولمة (صدام الحضارات) والثقافات وأن مشكلتها أي الرأسمالية المعولمة مشكلة ثقافية وليست اقتصادية فالعولمة كما برهنت على نفسها حتى الان لا تعدو ان تكون سوى الشكل الجديد للصراع الطبقي القديم إنه صراع معولم وهو تطور حتمي للصراع الطبقي التاريخي وأن ما تغير فعلا هو ادوات وشكل وشروط هذا الصراع أما أهم أدوات الصراع اليوم فقد أتت مما قدمته ثورة الاتصالات والاعلام في حين ان شكل وشروط هذا الصراع لا يزالان هلاميين وغير واضحين وهو أمر طبيعي طالما أن الرأسمالية التي تقود هذا الصراع هي ايضا هلامية وغير واضحة.‏

بالطبع يجب التنويه هنا ان صراعا طبقيا بالمعنى الكلاسيكي للمصطلح لم يعد موجودا اليوم فالتناحر اليوم ليس تناحرا بين طبقتين واضحتي المعالم كما كان في الماضي اي ان التناحر اليوم ليس قائما بين اقطاع وفلاحين او بين برجوازية وبروليتاريا او بين مالكي وسائل الانتاج والمحرومين منها فكما أن الرأسمالية المعولمة تبدو رأسمالية بلا تحديد بنيوي واضح كذلك فإن الطبقة المناهضة لها ليست واضحة المعالم وتفتقر إلى تحديد بنيوي ايضا وربما سيستغرق الأمر وقتا طويلا حتى تتحدد ملامح كل من الطبقتين ومع ذلك فإن التناحر القائم اليوم هو تناحر طبقي حتى ولو لم يقبل منظرو العولمة ومبشروها هذا الرأي بل إن التناحر الطبقي لم يكن اشد وضوحا مما هو عليه اليوم وأن حديثا عن اعداء ثقافيين وان الحروب المعولمة هي حروب ثقافات أو حضارات لا يعدو كونها ( وهماً ايديولوجياً) وان استبدال عمليات السوق كهدف حقيقي وراء تلك الحروب بأهداف ومشاريع ثقافية ليس سوى قناع تضعه الرأسمالية في حفلها التنكري المعولم هذا.‏

بالرغم من أن الطبقتين ليستا واضحتي المعالم إلا أن ذلك لا يعني أنه لا يمكن تشكيل تصور عام لكل منهما بالرغم من أن احدى الطبقتين تفتقر أكثر إلى تحديد اقتصادي واضح إلا أن الطبقة الأولى يمكن أن تحدد بطابع اقتصادي رأسمالي معولم, أما أفراد هذه الطبقة فهم نخبة المتعولمين الموجودين في دول مختلفة ولكن تجمعهم مصالح واحدة ويأتي تضامنهم من وحدة مصالحهم, فالنخبة المتعولمة هي طبقة رأسمالية المضاربات وهي اذ توحدها المصالح فإنها تختلف من حيث الجنسيات والاثنيات والاعراق وولاءها ليس إلى اوطانها التي تعيش فيها بل إلى مصالحها الممتدة إلى خارج تلك الأوطان.‏

* مدرس في جامعة تشرين‏

وتعمل هذه النخبة مدعومة بمؤسسات ذات طابع عولمي ايضا مثل هيئة الأمم المتحدة وصندوق النقد والبنك الدوليين يضاف إلى تلك المؤسسات الحكومات المنتخبة من خلال ديمقراطية ميكانيكية معولمة حيث يتوجب على تلك الحكومات التي تم ايجادها بهذا الشكل ان تعمل على شكل هيئات ولجان تدير الشؤون العامة لهذه الطبقة المتعولمة ومن اجل تسهيل امور واعمال افراد تلك الطبقة تعمل تلك الحكومات كنخاسين يعلنون عن اراضيهم وعمالهم بأبخس الاثمان وبدون ضوابط اقتصادية أو روادع سياسية أو اخلاقية.‏

ينتظم افراد الطبقة المتعولة في اشكال اقتصادية وتجارية تطلق على نفسها اسم ( الشركات متعددة الجنسيات) وهي تجمع افرادا من جنسيات متعددة يعود اليهم الأمر والنهي في شؤون العالم وقد تضم تلك الشركات افرادا اميركيين وبريطانيين وصينيين ويابانيين وعرب وافغان وروس بالتأكيد لا يربط بين هؤلاء رابط ثقافي وهمومهم ليست هموماً ثقافية, بل الرابط هو رابط اقتصادي وهمومهم تتمحور حول كيفية تنمية مصالحهم الاقتصادية في العالم, وبين هذه النخبة يسود المبدأ الذي لم يكن يوماً غريباً على التاريخ وهذا المبدأ هو (المصالح فوق العقائد) ولطالما أكد لنا التاريخ أن الثقافة لا تشكل طبقة نقدر ما تفعل المصالح الاقتصادية ذلك.‏

تتبدى مشكلة هذه الطبقة المتعولمة في أنها لا تستطيع أن تفصح عن مصالحها وجشعها على نحو سافر, وهي من أجل ذلك تبدأ بتمويه مصالحها, بتنكيرها, على هيئة أهداف إنسانية وأخلاقية, بحيث يؤمن لها هذا التنكير غطاءاً ايديولوجياً لفعلها في العالم.‏

وعلى هذا النحو تبدأ تلك الطبقة بالنهج كأيديولوجيا, مستعيرة المقولات البراقة التي تظهر وجه الحسناء فيما يختفي الوحش في الظل.‏

وكأي ايديولوجيا تطرح هذه الطبقة نفسها على شكل مذهب خلاصي, يقود حروبه ضد الشر لصالح الخير, ضد الفساد لصالح الصلاح, ضد الشيطان لصالح الله.‏

وأول ما تقوم به تلك الطبقة أنها تحول ما هو اقتصادي في الخفاء إلى ما هو ثقافي في العلن, وتقود حروباً تحاول أن تبرزها كحروب (إنسانية وأخلاقية) والطريف أنها وهي تفعل ذلك إنسانياً واخلاقياً ترتكب كل ما هو مناف للإنسانية والاخلاق بالدرجة الأولى.‏

ولا تدخر تلك الطبقة شعاراً أو مبدأ اخلاقياً تشن حروبها تحت لوائه, فباسم الديمقراطية أو انتهاك حقوق الإنسان أو مراقبة نزاهة الانتخابات في هذا البلد أو ذاك, وباسم التنمية الاقتصادية أو الاجتماعية أو نشر الوعي الصحي أو حل الخلافات الطائفية والمذهبية التي ابتدعتها تلك الطبقة في هذه البقعة من العالم أو تلك التي تقوم الطبقة المتعولمة مدعومة بمؤسساتها المذكورة بالتدخل على هيئة لجان مراقبة أو فرق تفتيش أو قوات فصل متعددة الجنسيات, أو على هيئة محكمة دولية تنشد العدالة ورفع الظلم عن مظلومين عليهم أن يمارسوا دور المظلوم فيما هم حقيقة يلعبون هذا الدور لأنهم لا يستطيعون أن يقولوا لا للمحكمة الدولية المعولمة التي يمكن أن تتغير قراراتها بحسب فعاليات السوق, هذه المحكمة التي تشتق نصوصها من عمليات السوق لا من عذابات الإنسانية وهي نفسها محكومة بجدلية (النص والسوق) فللسوق رأي في العدالة.‏

أما القانون فيغير رأيه بحسب نبض السوق, وما أن تستكين الدول المسلط فوق رقابها سيف المحكمة الدولية, وما أن تقبل بالخضوع لشروط (رأسمالية المضاربات) وتقلع عن قول لا لهذه الرأسمالية حتى تتحول المحكمة الدولية من محكمة تحت فصل من فصول الأمم المتحدة إلى محكمة في فصل من فصول مسرحية لشكسبير.‏

إلى جانب هيئة الأمم المتحدة يتم اللجوء إلى صندوق النقد الدولي, فعندما ترى طبقة المتعولمين أن بعض الدول والأنظمة يجب أن يموت موتاً سريرياً فإنها تستخدم صندوق النقد فيتم اغراقها بالديون والقروض المقدمة على صورة مساعدات إنسانية, فبهذا الشكل يتم أسر السيادة الوطنية لتلك الدول خلف قضبان السجن الاقتصادي.‏

وأما في حال تبين أن كل الأشكال السابقة من التدخلات لم تجد نفعاً ولم تحقق الأهداف المرجوة منها في اخضاع من لم يخضع لقانون سوق رأسمالية المضاربات, وعندما يبدو أن الموت السريري لم يعد كافياً, تلجأ الطبقة المتعولمة إلى القتل ولكنها تصوره على أنه قتل رحيم, فترسل جيوشاً جرارة مجهزة بأحدث أنواع الأسلحة وتكنولوجيا الموت والدمار, ترافق تلك الجيوش قوافل من الصحفيين والاعلاميين الذين تنحصر مهمتهم في العمل على تلميع وزركشتر صورة تلك الجيوش وإبراز رسالتها الإنسانية, التي جاءت لتحقيقها فيجري تصويرها على أنها تضم بين صفوفها الملائكة, أو جنود الرب, وليس جنود الاطماع الاستعمارية للرأسمالية المعولمة.‏

إنها جيوش مرسلة من السماء لتمهد الاجواء السياسية والاجتماعية على هذه البقعة من الأرض المليئة بالبؤس والشقاء.‏

والبدء بتطبيق برامج حداثية وإنسانية, في حين أن تلك الجيوش إنما تأتي إلى هذا المكان أو ذاك لتمهيد السوق المحلية وجعلها جاهزة لتقبل رأسمالية المضاربات وبالتالي ضمنها إلى السوق المعولم.‏

وكل ذلك يجري ضمن ايديولوجيا تحاول أن تبدو متمتعة بنوع من التماسك المنطقي والنوازع الانسانية,وأن توهم سكان الكوكب بأن ما يجري من حروب معولمةإن هي إلاحروب مقدسة تدور رحاها ضد ما هو مدنس.‏

إنها حروب ثقافية وبريئة من دنس الاقتصاد وإنها صدام حضارات لا صراع طبقات. ولبرهة من الوقت تبدو أوهام هذه الايديولوجيا على قدر كبير من الواقعية,إذ بفضل القدرة الهائلة التي تتمتع بها هذه الطبقة في سيطرتها الاعلامية,تجعل الجميع يرون بعيونهم على شاشات التلفزة شاحنات المساعدات الانسانية التي أرسلتها الشركات المتعددة الجنسيات الى منكوبي الضربة العسكرية التي نفذتها أصلاً طائرات من صنع تلك الشركات وبأمر منها.....‏

أما هؤلاء المنكوبون فيجري تصويرهم على أنهم ضحايا القتال من أجل الديمقراطية وحقوق الانسان وليسوا أبداً ضحايا الاطماع الاقتصادية وعمليات السوق,وخصوصاً السوق النفطية يجري تصويرهم على أنهم قدموا ضحايا على محراب التناحر الحضاري وليس الطبقي هذا التناحر المكوف الذي تقوده طبقة المتعولمين المتعددي الجنسيات.‏

في مواجهة طبقة رأسمالية المتعولمة,والتي تتركز في يدها سلطة المال والاعلام,تنشأ طبقة عالمية أىضاً,ولكن هذه المرة لن تعبر هذه الطبقة عن تشكيلة اجتماعية واقتصادية متجانسة.فالى هذه الطبقة سينتمي المشردون والعاطلون عن العمل ومدمنو المخدرات وكل الذين طحنهم الفقر والبؤس في كل مكان مر فيه قطار العولمة وخلفهم على الأقمة والأرصفة,والى هذه الطبقة أيضاً ستنتمي دول بالكامل بمؤسساتها وشعوبها ونظمها وستخوض هذه الطبقة بكل فئاتها أفراداً ودولاً صراعها ضد الرأسمالية المعولمة,ولأن هذه الطبقة حتى الآن هي أكثر تشتتاًَ وتمزقاً فإن صراعها سيكون على شاكلتها صراعاً مشتتاً وممزقاً ومفتقداً المنهج الموحد,ولكن يظل صراعها السياسي الذي تخوضه صراعاً طبقياً,فالصراع الطبقي هو صراع سياسي في نهاية المطاف.‏

ويجب على الدول المنتمية الى هذه الطبقة أن تصارع على أكثر من جبهة,فالدول التي غدت مرهونة بالكامل لمصلحة صندوق النقد الدولي والتي عليها أن تتجرع الدواء الذي وضعه لها ذلك الصندوق,وتلك المهددة بفصل من فصول الأمم المتحدة وتلك المطالبة بتغيير مناهجها وعلومها لتتوافق مع طروحات التنوير والدمقرطة الزائفة.‏

باختصار كل الدول المنقوصة السيادة وتلك المهددة بالانقضاض على سيادتها طالما ظلت منغلقة أمام مضاربات السوق,ستظل هدفاً لهجمات المضاربين العالميين وتسقط الفرص لتحويلها الى دول مشردة بالكامل تسودها الفوضى والعوز والأمراض والتناحرات الطائفية والمذهبية وبهذا الشكل يتم ارهاق هذه الدول خارجياً بعد أن تكون قد صنفت باعتبارها دول الشر والإرهاب.‏

أما داخلياً فإن معول الهدم الذي ستسخدمه طبقة الرأسماليين المعولمين,في هدم وتدمير تلك الدول من الداخل,فيتمثل بالمؤسسة التي مابرحت تلك الطبقة باستخدامها في حربها المسعورة, وهذه المؤسسة هي (التطرف المعولم) فبواسطة التطرف ستبدأ الدول المناهضة للعولمة بالمعاناة داخلياً على حين يتم تضييق الخناق عليها خارجياً,الى أن يبدو الأفق أمامها مسدوداً تماماً فإما أن تسلم تلك الدول زمامها الى أصحاب الكازينو العالمي وأن تجلس الى طاولة القمار الدولية وأن تلعب دور الخاسر أو أن تتحول الى دريئة أمام الرصاص الطائش للتطرف المعولم الذي لا يعدو أن يكون سوى نوع من الجريمة وقد تحولت الى نشاط اقتصادي,تطرف مأجور يطلب إليه أن يظهر وكأنه جزء من حرب ثقافية على حين هو فعلاً ليس إلا نوعاً من التمويه على صراع طبقي وسعي محموم للسيطرة على اقتصادات العالم.‏

كما يطلب الى هؤلاء المتطفين أن يظهروا وكأنهم يدافعون عن خصوصيات ثقافية ومعتقدات أصبحت في مهب سوق الأوراق المالية المنهار في كل بلد وصلت إليه أىدي بارونات المال وأساطين بهذا الشكل يمكن من خلال التطرف اثبات مزاعم العولمة من أن حروبها إنما هي حروب لنصرة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.‏

وبث روح الاعتدال في معتقدات الشعوب موصوفة بأنها شعوباً همجية وغير متحضرة وأنه عليها لكي تدخل الحضارة المعولمة أن تتحول إلى ثقافة الاستهلاك وقبول نمط العيش والسلوك المعولمين في حين أن حقيقة تلك الحروب تتمثل في الانقضاض على النظام المالي والاقتصادي لتلك الشعوب »الهمجية) ولا يكون التطرف وبالتالي المتطرفين سوى »حجر النرد) في المقامرة الكبرى والأكثر همجية في التاريخ وأنه ما إن تتمكن طبقة الرأسماليين الطفيليين من امتصاص أموال البلدان التي يقاتل فيها هولاء المتطرفون الذين جرى استئجارهم وغسل أدمغتهم, بأن طبقة المتعولمين كانت قد ضللتهم عندما القت بهم في حرب لم تكن حربهم وباعتبارهم أيضاً متطرفين متعددي الجنسيات فقد جعلتهم يموتون تحت سماوات ستظل غريبة عنهم وأنها وحدتهم ثقافياً فيما انقضت عليهم مدفوعة بأطماعها الاقتصادية, ولم يدرك هؤلاء أن الطبقة المعولمة لم تكن معنية ولن تكون إلا بمصالحها الاقتصادية فلها مصادر النفط والطاقة وللمتطرفين الله, للطبقة المعولمة الأسواق المفتوحة للمضاربات فيما المتطرفون موعودون بالجنة, الرأسمال المتضخم لها أما المتطرفون فلهم حرية القتال ضد كل من يقول »لا) للعولمة.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية