تذهب عني بعيداً جداً, روايات ألفة الادلبي, وكل من تغنى بعدها بعاصمة الأمويين, وذاك الشاعر الذي شاقه بردى حين جرى وصفق له إبان زيارته دمشق أوائل القرن الماضي!
لم يعد لائقاً أن نكذب, ولو على سبيل استخدام لغة الأدب ومجازاته, لنصبح وكالمدعي رائحة طيبة, لجسد أكلت الغنغرينا أحد اعضائه!
صديقتي الأديبة المعروفة, تعرض علي أن نجول قليلاً في معارض كتب الرصيف, بعد أن زرنا, في أزمنة متقطعة كل المكتبات الموجودة في وسط العاصمة, واشترينا ما نود قراءته, في عمر لم تعد ترضيه كتب (الموضة) التي تروج لهذه الكاتبة, وذاك الكاتب!
معارض كتب الرصيف لها اغواء يتجاوز نية العثور على كتاب نادر, لأنها تذكر بأيام الصبا والشباب, والحج إلى مبنى الجامعة العريق الذي بني في أربعينيات القرن الماضي, لذا أوافق بسرور على اللقاء تحت جسر الرئيس, حيث أيضاً ملتقى عقود من الزمن: معرض دمشق الدولي, عيد السوريين الذي انقطع, دون أن يمحو الذكريات الأجنحة المحمولة على صوت فيروز: شآم يا ذا السيف لم يغب!, المتحف الوطني, صندوق الدنيا الذي في قلبه وقاعاته وحديقته حكاية الدنيا كلها.
التكية السليمانية, نزل الأسرار الذي يواصل إنتاج همس المسافرين والمقيمين فيه منذ مئات السنين, لكن حريراً, وفضة وذهباً, وصدفاً وزجاجاً معشقاً هذه الأيام! المتحف الحربي الذي أوقف ساعة الزمن عند الثورة السورية الكبرى!
ألا يكفي هذا التلاقي للعلم والفن والتاريخ والتراث, لجعل نقطته, محطة استثنائية, تمتد منها منطقة الحلبوني والحجاز وأبو رمانة? قلب دمشق هنا, من يستطيع أن ينكر? القلب بمعناه الفيزيولوجي, لا بمعناه الإنشائي, المجاني!
تحت الجسر الذي لم أر عتمته منذ أزيل المعرض, وأصبح خراباً, يباباً بانتظار أن يشق السماء برج, مصمت, بزجاج عاتم كتوابيت نيويورك لرجال الأعمال والاثرياء الذين على ما يبدو, يمقتون الطبيعة والماء والزهر والشجر, تحت ذاك الجسر ركضت أتعثر من جهة فندق الفصول الأربعة, لأن سائق التاكسي تململ من الدخول إلى هناك.
عشرات الحافلات تتسابق بنفخ الصديد الأسود, وإطلاق, الزعقات الحادة, رغم أن المكان أضيق من ضيق, ولا سرعة متاحة ولا تجاوزاً!
كل الأرصفة محطمة, كل سنتيمتر من الاسفلت, ارتفع, وانخفض على مزاجه, كأن الأرض اخرجت قيئها, وبالغت في اخراجه نكاية بآلاف الأحذية والعجلات التي تطحنها..
إذن تجبرك أرض ما تحت الجسر, على الرقص غير المتوازن, وأنت تمشي في أرض وعرة لكن دون صفاء هوائها!
ألقي نظرة حولي بحثاً عن صديقتي فيصيبني أكثر من صدمة وذهول: أطنان من الورق, جبال من الكتب, مئات الأمتار, من المشمع الشفاف اختلطت معها زجاجات فارغة, وأغلفة مأكولات جاهزة, وأحذية مهترئة ووحل, وطين, وفردة شحاط بلاستيك صفراء, نصف متآكلة, وأكياس قمامة سوداء من تلك التي تطير والفراشات والعصافير لتحط حيث يشاء الهواء, لا الهوى, وعفن, نما على مدى النظر, هو من مخلفات الأيام الممطرة على ورق باتت رائحته كرائحة المقابر المفتوحة, وسرحت فيه كائنات دقيقة, توسع مستعمراتها, على مرأى من ثلاثة رجال (يبدو أنهم حراس المملكة, أو المزبلة) يرقبون بضاعتهم ويشربون الشاي, ويتنادمون!
من يستطيع مد يده إلى هذه القمامة المتفسخة المسماة بساحة بيع كتب? ماذا ستأخذ الأصابع من خليط الورق الذي فقد لونه وآدميته, ولون حبره?
ومنذ متى من الزمن تدخل, غفلة, كل هذه الأثقال المسماة بالكتب المدرسية والجامعية? علماً أن إعلانات تنشر في (الوسيلة) لشراء هذه الكتب التالفة, وماذا لو اشترى كائن بشري, أحد هذه الكتب وحملها إلى بيته? هل يمكن أن يغسلها, يعقمها قبل أن يجلس معها وجهاً لوجه?
صعدت, بما تبقى من أنفاسي, على الدرج المفضي إلى الجسر, فما وجدت موطىء قدم على الرخام الذي كان وردياً.. فهنا القمامة جافة ومتحركة بعصا الرياح, لا تطمس ضحكة صديقتي المتنبهة لردود أفعالي:هاتي مكنسة واشطفي كما تفعلين بدرج بنايتك..
حين أصبح فوق الجسر, أكتشف شيئاً لم يخطر لي ببال: هذا الجسر يفضي إلى جنوب العاصمة, حيث لا طريق لأي مسؤول في المحافظة, ولا يمكن أن يكون أحدهم قد توجه إلى هناك لعدم توفر الوقت والانشغال بالمسؤوليات لذلك, لا قلب يحزن, ولا عين تدمع على ما خفي تحت هذا الجسر من فظاعة!
سيادة المحافظ العزيز, مقرك لا يبعد عن هذا الجسر إلا مرمى حجر.. ونسلم بكل الحجارة والاسمنت, والبحص, وسفع الرمال في عيوننا وعلى وجوهنا, وتحت ملابسنا, نسلم بالبلاط الملون, المنثور في أركان العاصمة الأربعة, لأنه سيجمل المدينة, استعداداً لاحتفاء العرب بها, عاصمة لثقافتهم, لكن هلا, طلبت من أحد المهندسين أن يهل في جوارك القريب ليلقي نظرة على مكب نفايات اسمه مركز بيع كتب رصيف? وأين? بين جدران متاحفنا, جامعتنا, وعلى ضفة بردى, وتحت أبصار مفكري مستقبلنا من طلبة الجامعة, وكل سكان دمشق الذين يتزاورون, ويلتقون في محطة تلاقيهم الرئيسية..
ذات يوم (سدت ألوان القمامة الملونة, طريقي إليه الآن في الذاكرة) وقفت في نفس المكان, وأكلت مع زملاء الجامعة كستناء مشوية, من بائع عربة ظريف, ومساء دمشق يحمل رائحة الزيزفون, ويزيد جمر العربة توهجاً, وفرقنا الزمان, لكن حب هذه المدينة بقي يجمعنا, فهل يعقل أن يكون بديل بائعي الذرة والكستناء والفستق, أولئك الحراس لمكب النفايات..في المكان الذي ذكرته لك?