أتقنت لغات عدة فعبرت بها إلى ضفاف الترجمة لتبدع من جديد, تقع في غواية قراءة أدب الشرق والغرب بمشرقه ومغربه.. أطلقت رسالتها لأطفال فلسطين نتيجة خواء الغناء العربي.
في لقائنا مع الشاعرة الجزائرية ربيعة الجلطي ذهبت بنا إلى ينابيعها الأولى وإلى لغتها العربية التي سلمتها أسرارها, ونقلتنا إلى عتبها المحب للمشرقيين والنقاد.. لتحط رحالها في (أنا ربيعة الجلطي).
* ماذا عن الينابيع الأولى التي نهلت منها ثقافتك?
** أعتقد أن البيت أو التربية بالأساس هي التي تحرك دواخلنا وتجعلنا كيفما تشاء, تخلقنا آنيات من نحاس, أو تخلق منا أشجاراً مثمرة.. والدي »رحمه الله« كان له الأثر الواضح في تشكيل وجداني ومشاعري وطريقتي في التعبير, كان مثقفاً, فتحت عيني على مكتبته التي وجدت فيها منذ صغري القصص والكتب المترجمة, وأخرى بالفرنسية, والكثير بالعربية كما التراثية.. وجدت فيها كل ما يمكن أن يغري طفلة مراهقة, وامرأة للقراءة, وكان والدي يعتني بمكتبته ويغذيها دائماً, منذ صغري أحسست بأني لم أكن كغيري, ولم أشبه الآخرين في تعاملهم مع الواقع, مع الأشياء الصغيرة والتفاصيل, هناك أشياء تظل في داخلي لا تؤثر بغيري وهذا جعلني أفكر بطرق أخرى لأعبر عن نفسي.. جعلني أغني, ثم أرقص الباليه, الرياضة الفنية للتعبير.. ثم رسمت بالقلم الكلمات لأن الشعر فيه كل هذه الفنون.. ومع أن حياتي فيها تجارب جميلة في المسرح والغناء والرياضة, لكن ما غلب على مساري الشعر ربما لأنني اخترت متابعة دراستي بطريقة جادة وهذه الفنون تتطلب وقتاً كاملاً, والدراسة تأخذ الوقت كله, لذلك كان الشعر هو المفتاح الوحيد الذي بقي بيدي قوياً واستطعت أن أعبر به وما زلت أتعامل معه بحذر وحب.
* ما أثر علاقتك بزوجك الروائي »أمين الزاوي« في ثقافتك أو إنتاجك الأدبي?
** علاقتي معه علاقة عشق ومودة وحب واحترام, وعلاقة ثقافة لأنه قارئي الأول مذ كنا صغاراً.. كنت أتلهف عندما أكتب قصيدة لأقرأها عليه, لأنه لا يرحمني بمسألة النقد جعلني أمين أتطور وأعتقد أنه جعلني أتجاوز نفسي وأكون جادة وأخاف عندما أكتب, صحيح أن المشاعر والأحاسيس موجودة, وأني ملفوفة بغيمة وبموجات متعددة ومتضاربة من الأحاسيس والمشاعر لكن العقل حاضر, والخوف من التكرار والخطأ والتشابه.
لا أريد أن أقرأ قصائدي وأنا مرتاحة, دائماً أقرؤها وفي رأسي ناقد والناقد الأول هو »أمين الزاوي« وبالنسبة له أنا ناقدة أولى له لأنه لا يقرأ رواياته إلا لي أو أقرؤها أنا.. وأعتقد أن صراحتي في نقد كتاباته أدت إلى حصوله على جوائز عديدة في أوروبا وغيرها, وأنها ترجمت لأكثر من عشرين لغة, وهذا لي فيه القليل من النصيب لأنني دائماً أقف بمودة وأنتقد.. وعندما يكون الأمر جميلاً لا أتوانى بالقول هذا جميل ورائع, وأعتقد أن السنوات التي عشناها معاً والتجارب التي مررنا بها عمقت هذا الشعور بالأمان والثقة في النقد المتبادل.
* ماذا عن أثر الثقافة الغربية في إنتاجك الإبداعي?
** التلاقح الغربي موجود عندي مذ كنت صغيرة, فمنذ البدء قرأت لأكبر الأدباء الفرنسيين.. وتعلمت الإسبانية في المدرسة وهذا فيه تلاقح جديد, لذلك لا أنفي محبتي لهذه الثقافات وأقرأ منها الكثير.. لكن عمودي الفقري عربي وصلب, وأظن أني أقرب إلى الشريف الرضي, جرير الذي أحبه كثيراً, الفرزدق, امرؤ القيس, إلى المتصوفة العرب ابن عربي والنقري.. هم جزء مني ومن تكويني صحيح أني أحب قراءة أدب الأدباء الفرنسيين والإسبان, لكني أنا المتنبي, وفي جسمي المتنبي, وفي روحي القاضي عياض, وهناك أسماء كثيرة تشكل ذائقتي وجسدي الشعري.
* ما مدى استثمار المكون التراثي العربي في نصوصك?
** لدي ضعف تجاه التراث.. ربما ورثت هذا عن أبي لأن مكتبته احتوت على الكثير من الكتب الصفراء (القديمة) بشكل آلي, وتغذية خيالي الشعري من الكتب التراثية حتى القواميس العربية فقد كنت أعود إليها وأرى هذه التفاصيل التي كانت تحاط بها الكلمة وتقلباتها, معانيها.. وهذا زادني شغفاً باللغة وبالدخول إلى أسرارها.. ثم جعل اللغة صديقتي ودائماً أتقرب إليها لأعرف منها وأتعلم من أسرارها وتقلباتها, من خياناتها ووفائها.
* كيف تقيمين تجربتك الأولى (تضاريس لوجه غير باريسي) بعد مرور خمس وعشرين سنة?
** لست من الناس المعجبين بذواتهم, لست من الذين يناغون ويبجلون كل ما يكتبون, لم أندم على ما كتبت, صحيح أنها كانت تجربة جميلة في زمنها في إطارها وفي وقتها.. لم أنشر كثيراً.
عشر مجموعات شعرية داخل فيها ما ترجمته.. منها ثماني مجموعات من تأليفي.. لكن ما كتبت أكثر مما نشرت, والجميع يعرف أني لا أجري وراء النشر, وليس هناك صاحب دار نشر طلبت النشر عنده إلا إذا كان هناك توافق بيننا, وهذا لا أجعل منه مثالاً. ولكنه داخل في عملية الخوف من النشر والخوف من الخطأ, أنتظر أن تتبلور القصيدة على نار هادئة, الفكرة تصبح ناضجة ومكتملة, ضربت بها الشمس وأخذت الماء الكافي والتراب أيضاً, لتصبح قصيدة ناضجة لا أندم عليها بالمستقبل وعندما يقرؤها أحد من بعدي لن أخجل, ربما سيسرني عندما سيضع شاب أو شابة كتاباً تحت الوسادة ويقول: (هذا لربيعة الجلطي).
* قدمت رسالة لأطفال الحجارة في فلسطين كيف كان ذلك?
** هي قصيدة ركبت على موسيقا تشي غيفارا وهذه تجربتي الثانية فالأولى عندما كنت في الثالثة عشرة من عمري كتبت قصيدة فركبها أستاذ الموسيقا على سيمفونية بتهوفن وسجلت تلفزيونياً وهي موجودة الآن في الأرشيف.. هنا تجربة أخرى وبعد زمن معين, تتحدث عن أطفال الحجارة عن قضية فلسطين, هذا الخواء في الغناء العربي جرحني لأنه يتحدث عن كل شيء عن الجسد, عن كل ما ليس له علاقة بالحس الحقيقي الذي نعيش به ويتجاهل قضيتنا الأولى, ففلسطين عرضنا, علينا أن نتحدث عنها حتى لا يذهب أو ينتهك كلية.
* هل يمكن اعتبار الإنجاز الشعري العربي نسيجاً واحداً أم يمكن تقسيمه إلى مشارقة ومغاربة?
** أعتقد أن المشارقة لا ينتبهون إلى شعر المغاربة رغم أن للمغاربة شعراً جيداً.. ونحن كمغاربة ندرّس في الجامعات كل الأجيال الجديدة التي نعيشها الآن والنماذج الجميلة لأعرفهم بالأدب الجديد وما استحدث عند عدد من الشعراء المشرقيين »نزيه أبو عفش, محمود درويش« ومجموعة من المبدعين بكثير من الألق لتدخل إلى قلوب الطلبة, وأدفعهم ليعتمدوا دراسات لشعراء في المشرق العربي, وبالدكتوراه الدولة مجموعة من الأسماء الكبيرة.. لكن أظن أن المشارقة مشغولون بذواتهم, بأنفسهم, لديهم نوع من النرجسية.. أقول ذلك بكثير من الحب, وبقليل من العتب.
* كيف تقيمين حركة الشعر العربي مقارنة مع حركة الشعر العالمي بوصفك شاعرة متعددة اللغات?
** إذا قارنا ما بين الحركة الشعرية العربية مع الحركة الأوروبية لا أعتقد أن المقارنة ستجوز, لأن الشعر العربي مبعثر ليس هناك ما يمكن أن نؤسس عليه ونرتكز به لنبني فكرة متكاملة أو فكرة أقرب إلى العلمية لأن الكتب لا تصل إلى كل مكان ولا ينشر إلا القليل منها والنقد لا يلتفت إلا نادراً لهذه الكتب الشعرية, ثم دور النشر لا ترى بها مكسباً لأنها لا تأتي بمال ولا توزع أو تباع, لكن في الحقيقة من سوء حظ الحركة الشعرية العربية ومن سوء حظ القصيدة النثرية بالدرجة الأولى أن هناك بعض الانكسارات والانشطارات في المسار, فالمسار لا يتم بطريقة طبيعية, كلما وصل إلى تراكم معين كلما هدمت صومعة القصيدة العربية, وأخص النثرية بحكم أنها آخر ما وصلت إليه تطورات القصيدة العربية.. وأعتقد أن هناك تجارب ناضجة في الحركة الشعرية العربية, لا يمكن أن ننسى أو نتناسى فرحنا عندما نقرأ أدونيس, وحين نسمع محمود درويش وأثناء مطالعة شعر يوسف الخال.. ومحمد الماغوط.. أعلام كبيرة, ومن حسن حظ الشعر العربي وجود بعض الأسماء التي تخترق هذا الخواء وتؤسس لصوامع عالية جداً في مجال الشعر العربي.
* ماذا عن المؤثر الفرنكفوني وحدود المثاقفة وأثرها في الشعر المغربي?
** لدينا كتاب يكتبون بالفرنسية وهناك آخرون يكتبون باللغتين العربية والفرنسية, وهناك من انتهى من الكتابة بالعربية توقف بعد أن استقلت الجزائر واختار الصمت, وهناك من اعتبر اللغة الفرنسية غنيمة حرب وظل يكتب بالفرنسية حتى بعد الاستقلال.. وها هو الروائي أمين الزاوي يكتب بالفرنسية والعربية ويحقق نوعاً من التوازن.
بالنسبة للمشهد الثقافي الجزائري اللغة الفرنسية حاضرة, لكن العربية حاضرة أكثر والناس يتلهفون للقراءة بالعربية كما الفرنسية وعلى الرغم من أن الفرنسية حاضرة إلا أن العربية متاحة أكثر.
* كيف تنظرين إلى نقل نص إبداعي إلى لغة أخرى وحجم التصرف فيه?
** الإبداع شيء خاص, شخصي, بصمة كما فصيلة الدم وبؤبؤ العين.. وإن وقع الحافر على الحافر عن طريق توافد الأفكار والقراءات يغذي هذا الإبداع.. وبالنسبة للترجمة وبعد أن ترجمت 100 قصيدة كوبية من الإسبانية وجدت أن الترجمة مشكلة ومسؤولية جمالية ومسؤولية فكرية لأن القصيدة عندما تكون في مجال لغوي وتنقل إلى مجال لغوي آخر, كما الانتقال من ضفة إلى أخرى, من شاطئ بحر إلى آخر, على المترجم أن يعرف العوم وكيفية التخلص من الانزلاقات والأمواج ومعرفة لغة هذا البحر.. لذلك لا يمكن أن يترجم الشعر إلا شاعر, وأظن حين يخلق الشاعر نصاً آخر مبدع أفضل من ترجمته ببغائياً.
* هل تؤثر الترجمة على معمارية الشعر وموسيقاه?
** طبعاً لأن الموسيقا تختلف فإذا كانت الموسيقا على ايقاع غربي وتترجم إلى اللغة العربية يجب أن تنقل إلى إيقاع عربي لأن الموسيقا لها علاقة بأذن أخرى وموسيقا مغايرة, لذلك يجب أن نحترم هذه الأذن المستقبلة التي لها صفات أخرى.
* ماذا عن النشاط النقدي في المغرب العربي وأثره في تحفيز حركة الشعر?
** في المشرق كما المغرب, لم أر هناك ناقداً استطاع أن يتابع هذا النهر الغزير من الشعر, في الحقيقة هناك نقص فادح لمتابعة النقد للحركة الشعرية العربية.. وهناك تجارب قليلة متابعة لكن ليس بشكل مؤكد, ولا أظن أن هناك من هؤلاء ممن يقول يتابع الحركة الشعرية ويستطيع أن يخرج إلى العالم اسماً كبيراً أو أن يرتب لولادة موهبة شعرية جميلة.. هناك اقترابات وانطباعات وبعض الدراسات الجامعية الأكاديمية, لكن ليس هناك ظاهرة توازي هذه النصوص النثرية المنثورة في كل مكان في الجزائر والمجموعات الشعرية, ليس هناك من استطاع أن يظهر على أنه الاسم الذي يتابع بامتياز الحركة الشعرية.. لكن لا يمكن أن ننكر ما يقدمه بعض المجتهدين والمفكرين وبعض النقاد العرب حالياً حيث بدأت تظهر بعض الكتب, وهناك أسماء تخترق الحدود بين المشرق والمغرب كي يوجهوا نقداً لتجارب أدبية في العالم العربي.
* ماذا عن الأدب النسائي »شعراً« ومدى حضوره?
** ليس هناك شعر نسائي أو ذكوري, هناك شعر أو لا شعر, هناك أدب أو لا أدب, وهناك أسماء قليلة جداً أثبتت حضورها.. منذ فترة استمعت إلى محاضرة كاملة لأحد المهتمين بالشعر السوري, حزنت لأنه لم يمر في هذه المحاضرة أي اسم لأي شاعرة ألا تملك سورية مبدعات, هناك مبدعات والفترة التي تحدث عنها كانت الأقلام النسائية في سورية كثيرة.. ولكن ليس هناك سقف لتتحرك تحته المرأة الشاعرة, الأمر ضائع.
* ألا تعتقدين أن هناك قصيدة عفوية من شاعر ما ترفعه, ومن شاعر آخر كبير تسقطه?
** من الممكن جداً.. لذلك على الشاعر أن يكون عاقلاً في كل خطوة أو بأي كلمة يقولها.. وأنا أمقت الكتابات المليئة بالحشو.. يجب أن تكون القصيدة مسلة من رخام لا زوائد فيها أو نتوءات يجب أن يكون لكل كلمة في القصيدة دور, والكلمات الزائدة يجب أن تتنحى وتلغى.. كما المرأة الجميلة التي تكثر من المكياج فتصبح قبيحة.. هكذا هي القصيدة.
* ما تأثير الإعلام على الشاعر?
** يلعب الإعلام دوراً كبيراً في الندوات الثقافية والأمسيات الأدبية واللقاءات والحوارات مع الشعراء, وهو أساسي في انتشار القصيدة وتحسين الذائقة, وأغلب الشعراء هم أيضاً من الإعلاميين الذين عملوا بالحقل الإعلامي, وهذا الأمر سهل لهم توصيل بعض الأشياء, ولكني أعتبر الإعلام سيفاً ذا حدين, قاتل مرات, ويقضي على الشاعر قد يؤدي إلى الغرور ويقتل الشاعر.. لكنه الوسيلة الوحيدة لانتشار الإبداع والمبدع.
* أين هي (الأنا) عند ربيعة الجلطي?
** أنا البسيطة, والمترددة دائماً, المنتقدة لنفسي غالباً, أتردد عندما أخطو حتى لا أندم.. وكم من خطوات لم أندم عليها وهذا بالنسبة لي انتصار على نفسي, وانتصار على الخطأ.