في بلد الأمان تمتد يد الغدر لتغتال الأمان، في بلد يضم مثل طاقة الورد حيث تتشابك أعناق الأزهار المختلفة الشكل واللون والرائحة، في ضمة تفرح القلوب وتطرب لها النفوس، هي اضمومة الوطن حيث الأطياف الرائعة التشابك في العادات والتقاليد والنظم الاجتماعية ومفردات الحياة.. وتبقى الخصوصية للجذر كما جذر الزهور، كلٌّ يمتص رحيقه من جذره. ذلك ما فطرهُ الله عليه، والحاضن تربة واحدة هي الوطن، والغذاء واحد يسري في النسغ ليمنح اللوحة السورية أبهى الألوان وأزهاها.
ولكن دائماً يد العابث هي التي تمتد لتقطف الزهرة، وبعنف يده تتناثر أوراقها لتلعب بها الريح، وهذا ما حدث...
عنف يد العابث فكك أوراق الزهرة السورية، لكن أيادي الخير سرعان ما لملمتها لتجمعها في إناء واحد، حتى لو جفت من خارجها تبقى رائحتها العطرية تشدو في المكان لتؤكد أن النبت القادم يحتفظ بكل الجينات الرائعة التي تعيد للحقل بهاءه وجماله، مع اختلاف ألوانه وعطره. فالأرض الطيبة لا تنبت إلا طيباً حتى لو امتدت العبثية لتدس لها سماداً مسموماً، أو تقطع عنها الماء السلسبيل لتضخ ماءً غير نقية، أو تنال منها بقطعٍ بسكين ثلمة أو حادة، أو حتى بأظافر سوداء من كثرة عبثها بالمواد السامة...
ومع المشهد الذي يتفاقم مرة ويهدأ أخرى، تترك المشَاهِدُ آثارها على القلوب، ومن شدة حب هذه القلوب للوطن للأم ينفطر بعضها فلا يحتمل، حتى ليغادِرَ الحياة موصياً بالوطن خيراً...
وآخرون رغم ارتفاع قاماتهم في الوطن ورباطة جأشهم وقوة شكيمتهم وإيمانهم برسالة السلام والمحبة التي يحملون في عقولهم وسلوكهم، إلا أن قسوة المشهد حين التفكر به جعلت أدمغتهم لا تحتمل، حتى وصلت شرياناتهم للانتباج، فأصابها النزف وامتدَّ ليأخذهم إلى الحياة الأبدية...
يقولون عندما يمتد العمر بالمرء تصبح قوة احتماله أكبر، وتأثره بما حوله يصبح أقل تأثيراً على قلبه وعقله.. لكنهم نسوا أن كل ذلك رغم ما فيه من الصحة، عندما تتجاوز الأمور الخطوط الحمراء، وعندما يصل الطوفان لحدود الوطن برمّته، في محاولة إحراقه بكل مكوناته، فإن هذه القلوب العامرة بالحب والعقول بأنسجتها النبيلة لا تحتمل شدة الحدث فتختار الرحيل إلى حيث الإله بعدله وغفرانه ورحمته.
رجل من قامات الوطن والإقليم وصولاً للعالمية، حمل رسالة المحبة والسلام، التقيته في غير مكان وفي أكثر من محفل، صوته الهادئ الذي يمنح مَنْ حوله الدفء والسكينة، المتدفق بالحب لسورية الأم، يزرع الخير حيث تطأ قدماه الأرض، يقدِّرُ كل من يفعل خيراً عميماً للوطن.. يكرّمُ كلَّ من يحتضن كرامة الإنسان، ويؤدي واجبه تجاه بني جلدته... الهدوء يغلف كل أفعاله، الحكمة تنضح في كل أقواله... ملؤه عزة وإباء ينتشي بها المستمع لحديثه...
مفتاح خير حيثما يوجد، ودافع شر أينما يحل.. حريص على وحدة الوطن.. حريص على ائتلاف القلوب.
في رقة تصرفاته تجده مثل نسائم الوطن. وفي عزة قوله هو مثل شموخ قاسيون. وفي لطفه هو مثل كل بني منبته في تلك القرية الغافية المفعمّة بالحب والكد والعمل، (محردة) التي ما إن التقيتَ أحداً من أبنائها حتى عرفتَ أنه منها لكثرة لطفه وأناقة تعامله والتصاقه بالوطن... كما كل أبناء الوطن ريفاً ومدناً فسورية عامرة بقلوبهم معمّرة بهم.
العملاق الحضور وإن كان قصير القامة، العظيم الخصال وإن كان نحيل الجسد، الشديد الشكيمة وإن كان هادئ الملامح، رصين القول عزيز البأس...
البطريرك أغناطيوس هزيم... اسم ملأ الدنيا حباً وعشقاً للوطن موسوعة علم وفلسفة وروحانية... اسمٌ علمٌ تفخر به سورية وطنه الأم...
اخترت الحياة الأبدية أيها الأب الكبير... بعد أن رفضَ دماغك ما ينال وطنك وأرضك ومنبتك سورية...
غادرْتَ إلى جوار ربك حيث يرقد الخالدون والشهداء، وأنت واحد من شهداء المشهد في الوطن... حيث الجنة تحتفي بشهدائها المغمورين بحب الناس والغامرون لهم بحب الوطن وأهله... الذين نذروا ووهبوا حياتهم لأجل حرية الأوطان وخلق الله. غادرت أيها المغروس في قلوب الناس، لكن زرعك حاضر ونبتك مثمر ونهجك مستمر، وحملة رسالتك لابد على دربك سائرون لعزة سورية وكرامة سورية وحرية سورية ومنعة سورية، ودرء الخطر عن سورية.
السكينة والهدوء لروحك... والمحبة والسلام لسورية.