|
النشر في فضاءات السماوات من مجموعة في البحث عن الضياء علني أجده في مكانه المعهود والسماء من خلفه على اتساعها اللامحدود.
فارفع له يدي عالياً تحية وأنا أتأمله وهو يلوح بيده للمارين من تحت شرفته الصغيرة. كأنه طائر يحاول الطيران عبثاً للإنضمام إلى سربه الذي أفل بعيداً وتركه وحيداً في شعاب السهول منذ أمد بعيد. صباح اليوم انسكب صوته كنغمة ناي حزينة في أذني المتلهفة لسماع كلماته الرائعة. صباح الخير يا أستاذ صباح النور اصعد بسرعة ما جديدك هيا كي تقرأ آخر مقالاتي المنشورة قادم إليك وأنا ارتقي الدرج المعتم خطرت في ذهني قصته مع كتاباته التي لم تنشر في أي مطبوعة فداهمتني ابتسامة حزينة تلاشت عند نهاية الدرج حيث سطع ضوء شمس الصباح المشرقة على السطح الصغير. وكان باستقبالي ضاحكاً بصخب كعهدي به على الرغم من كل معاناته. وخاطبيني بحماس كعادته بعدما أمسكني من يدي وشدني خلفه. نشرت هذه المقالة صباح اليوم وقفت أمام مقالته المنشورة المهتزة مع نسيمات الهواء والملاصقة لجوربه المثقوب المنشور على الحبل ذاته وثبتها بيدي كي أتمكن من قراءتها. فأردف بانفعال: لقد كتبتها مرة واحدة فقط ونشرتها فوراً دون أن أراجعها أو أنقحها! فسألته السؤال الذي يرغب أن يطرح عليه: لماذا لم تترو قليلاً في النشر? فأجابني بحماسته المعهودة: موضوع هذه المقالة لا يؤجل مطلقاً ويجب نشره في أقرب وقت.. ثم ضحك بسعادة متعبة وأضاف: أقرأها وقل رأيك بكل صراحة. بينما كنت أقرأ مقالته المكتوبة بخطه الجميل. كان ينظر الى الشارع ويحاور الناس كدأبه كل يوم: صباح الخير ألا تريد قراءة آخر مقالاتي المنشورة? نشرتها منذ قليل أنا في انتظارك صباح الخير.. بعدما انتهيت من قراءة مقالته داهمني سؤال خطر في ذهني للمرة الأولى منذ معرفتي به فشعرت بالبرد يتسرب حتى العظم برغم حرارة الصيف المرتفعة: كيف ستنشر مقالاتك في الشتاء?! أجابني مباشرة كأنه طرح علي نفسه هذا السؤال سابقاً أكثر من مرة بل ويستغرب طرح مثل هذا الاستفسار: على الحبل نفسه هذا! فسألته مستغرباً: ولكن عندها يهطل المطر ستبتل جميع الاوراق فيذوب الحبر عنها.. وأضفت مداعباً: فتعود الاواق الى بياضها المحايد كأنك ما كتبت عليها حرفاً واحداً! فأجابني مؤكداً بثقة: عندما يهطل المطر سأضع مظلة كبيرة فوق مقالاتي المنشورة على أعظم حبل في التاريخ! وأردف باسماً وقد أخذ وضعية حامل المظلة: هكذا! عندئذ تخيلته كيف سيقف بوجه الرياح العاتية تحت الأمطار الغزيرة كي تظل مقالاته منشورة أجل منشورة على الحبل! فإجتاحتني مشاعر الحزن.. عندما تصورت كيف سيؤثر برد الشتاء على جسده النحيل وقد يصاب بمرض مزمن وقد يموت فتهوي المظلة من يده ويتلف المطر أوراقه التي سينحل الحبر عنها لتنثال في الميازب التي ستهدرها على أوحال الدورب حيث تدوسها أحذية السابلة. فقلت محاولاً تبديد أفكاري السوداوية بأن أكون متفائلاً مثله رغماً عن الظروف: يجب أن يشاد لك نصب في ساحة الصحافة. راقه إطرائي فدعاني الى كأس من شايه الشهي في كوخه الصغير المكوم في زاوية السطح ولكنني اعتذرت منه لأنني لا أستطيع التأخر عن عملي على أن أزوره في مناسبة أخرى فسألني بوده المحبب: متى يا أستاذ? فأجبته مؤكداً الزيارة: عندما تنشر مقالتك الجديدة. وسرعان ما سحب من جيبه ورقة مجعدة وقال: لدي مقالة قيد الكتابة سأكملها وسأنشرها صباح الغد وربما أنشر معها مقالة أخرى فعقلي يدور بسرعة هذه الأيام. مددت يدي أشد على يده: لقاؤنا غداً أرجو أن تكون المقالة منشورة. ضحك هاتفاً: سأنشرها وستقرؤها منشورة. ودعته على أمل اللقاء القريب عند نشر مقالته التالية! ونزلت الدرج القديم المتداعي غائصاً في عمق الظلام السفلي ثم خرجت للشارع سائراً في الزحام حيث عاد نور الشمس المشرقة. وصورته لاتفارق ذهني مع أوراقه البيضاء الخافقة من حوله كأجنحة الطيور تحاول دونما يأس الفرار من الحبل الملتف كالأنشوطة للحاق بالغيوم المسافرة نحو آفاق السماوات السابحة بضوء الشمس المسترسل إلى آفاق بعيدة حيث لاتعيقها حدود!....
|