فإنها يقيناً تمارس الكذب على رؤوس الأشهاد . وأبسط ما يمكن قوله في هذه الحالة هو أن المزاعم الأمريكية تسيء لصورة أميركا كدولة عظمى , بل كدولة تزعم أنها الدولة العظمى الوحيدة في العالم .
هناك مثلٌ عربي يقول : « أهل مكة أدرى بشعابها « . وهذا المثل ينطبق أكثر ما ينطبق على أمريكا في علاقتها مع الإرهاب بكل أشكاله . فهي بالتأكيد الأكثر علماً بأماكن تمركز الإرهابيين وبما تعبره عصابات الإرهاب من المسالك والشعاب , وهي حتماً الطرف الأكثر دراية في هذا السياق , والأكثر قدرة على التحكم بكل أبعاد هذا النطاق , حتى أكثر من وكلائها المنغمسين في تجنيد وتدريب وتسليح الإرهابيين , سواء جاء ذلك بسبب طبيعة أجهزة الاتصال المتطورة التي وفرها الأمريكي وعملاؤه للعصابات الإرهابية , أو بسبب القدرة الأمريكية على الاستطلاع والرصد المستمرين , أو بسبب التحكم الأميركي بمنظومة تخليق الإرهاب بكل أبعادها . فما تعرفه هي أكثر بكثير مما يعرفه كل طرف من الأنظمة العميلة لها منفرداً , وحتى لو اجتمعوا وأجمعوا على رصد ما صنعوا فإن معرفتهم ستظل قاصرة بالقياس الى المعرفة الأمريكية .
قد يتساءل البعض : أيعقل أن تكون المخابرات المركزية الأمريكية مندسّة في صفوف الإرهابيين في كل مكان لتحظى بمثل هذا اللون من المعرفة ؟! . ونسارع الى الإجابة قائلين : كلا!!. إنها ليست بحاجة الى دسّ جيش من العملاء على الإرهابيين , خاصة وأن هذا الاندساس صغر حجمه أم كبر لن يكون مأموناً بشكل مطلق . وأجهزة الأمن العميلة للأمريكيين يمكن أن تنوب عنهم تماماً وأن تغنيهم عن مثل هذا الاندساس أو الانغماس الواسع النطاق .
إن ما يهم الأمريكي في استثماره للإرهاب أمران جوهريان :
الأول – أن يصوّب سهم الإرهاب في الاتجاه الذي يريد .
والثاني – أن يرصد ما يحدث على الأرض خلال التنفيذ , ولو من بعيد .
وكما هو واضح , فإن الأمر الأول يتعلق بالقرار السياسي الذي يُتخذ قبل بدء الحملة , وتجري متابعة تنفيذه بعد ذلك . أما الأمر الثاني , فيتعلق بتقنيات الرصد الأمريكية المتطورة بكل أشكالها , والتي تمكن الأمريكي من معرفة كل التطورات التي تجري على الأرض لحظة بعد لحظة, أو بالعودة الى التعبير الذي بدأنا منه رصد الشعاب والمسالك . والغاية من المتابعة بالطبع هي تقييم المسار والتوجيه بما يلزم من تعديل في الممارسات . وفي الحالتين الأولى والثانية , فإن الحاجة الأمريكية تتمثل في العلاقة على مستوى القيادات , أو بتعبير آخر الاختراق على مستوى القيادات الرئيسية العليا منها والفرعية .
بالتأكيد , لا يمكننا الافتراض أن الأمريكي وقد سدّد سهم الإرهاب في الاتجاه الذي يريد , وراح يرصد ما يجري من بعيد , سيكتفي بعد ذلك بدور المتفرج . فهو معنيٌّ يقيناً بتمكين إرهابييه من الوصول الى الهدف الذي حدّده لنفسه . ونقول حدّده لنفسه , لأن هدفه هو حتماً غير هدفهم الذي يسعون إليه أو أهدافهم التي يسعون إليها , ومن أجلها يَقتُلونَ ويُقتَلون . فاللعبة تتمّ لخدمة الأكبر , ولا تتمّ لخدمة الأصغر . وما الإرهابيون في هذا السياق إلا مجرّد أوراق منذورة للاحتراق .
هنا لا بدّ وأن نتساءل : كيف يمكنُ للإرهابيين أن يخضعوا أنفسهم لهكذا لعبة يكونون فيها الطرف الخاسر بالتأكيد ؟! .
لنعترف بأن الإجابة على مثل هذا السؤال لا تخلو من التعقيد . فمن العبث بداية أن نتصوّر بأن كلّ هؤلاء الإرهابيين جاؤوا ليخوضوا حرب الأمريكيين أو اليهود الصهيونيين , رغم أن ما ثبت من خلال سلوك بعضهم مع الأمريكيين أو الصهاينة من وصال يدلُّ على رداءة الحال , ويكفي لإدراجهم على قائمة العملاء إلا إذا استثنينا بعضهم فقلنا إنهم بشكل عام من الجهال .
في الواقع أن فهم ما هو حاصل وواقع يتطلب التمييز بين مستويات ثلاثة :
1 – المستوى القيادي , والذي يُفترض أنه يفهم ويعلم ما عليه أقدم . وهنا لا بدّ وأن نطرح على أنفسنا السؤال : لماذا غُيّبَ أسامة بن لادن في مطلع أيار 2011 ليخرج أيمن الظواهري على الملأ معلناً توجه إرهابيي القاعدة الى سورية بعد أن تم الإجهاز على القذافي في تموز من ذلك العام ؟! . هل كان قرار الظواهري في ذلك الحين « قاعدياً « أم أمريكياً ؟!. وما هو مستوى السيطرة الأمريكية على القيادات الرئيسية والفرعية في التنظيمات التكفيرية سواء كانت سيطرة مباشرة أو عبر أجهزة أخرى موالية لأمريكا ؟.
2 – المستوى الفكري وخلفيته الوهابية على تنوع تشكيلاته , وكيف ينظر أصحاب هذا الفكر الى الأولوية في محاربة من يدعون أنه « العدو القريب « قبل من يقولون إنه « العدو البعيد»؟ وكيف يفهمون العلاقة مع العدو البعيد ويبررونها لأنفسهم ؟ وهل يعتقدون أنهم يستغلون هذا العدو البعيد ويوظفونه لخدمة هدفهم أم يدركون أنه هو الذي يستغلهم ويوظفهم في خدمته ؟ أم أن هذه كلها فذلكات لتبرير العمالة ؟.
3 – المستوى النفسي والنفعي ودوره في التعبئة والتحشيد , إذ علينا أن نسلم بالحقيقة القائلة بأن عشرات الآلاف من الأشخاص الذين جرى تجنيدهم في التنظيمات الإرهابية جرى استقطابهم بعد شن الحملة الأمريكية على سورية وليس قبل ذلك . وليس صحيحاً أن كل هؤلاء جاؤوا على خلفية دينية وهابية أو غير وهابية . كل ما في الأمر أن مجنديهم لاعتبارات نفعية أو تحت تأثير التضليل الإعلامي اختاروا لهم أطراً تناسب الممولين السعوديين والقطريين مثلما تناسب منطق سلطة أردوغان وجماعة الإخوان . ولقد جاء هذا التجنيد عملياً تحت تأثير استخدام الولايات المتحدة وعملائها لميكانيزمات الفتن على أوسع نطاق في سورية وفي المنطقة.
من بين كل ميكانيزمات الفتن التي وظفها الأمريكي ومن ورائه « ائتلاف الثمانين » في حربه غير المباشرة على سورية , والتي هي جزء من حربه الشاملة على كامل المنطقة لحساب إسرائيل , هناك في الواقع كلمة واحدة قد تكفي لتفسير جزء كبير من المشهد بما انطوى عليه من تعقيدات . وهذه الكلمة هي في عاميتنا « الشنص » , أي الفرصة أو الحظ . ولنلاحظ أنها عين الكلمة الانكليزية chance . فالذين اعتقدوا بأن القرار الأميركي بإسقاط النظام السياسي في سورية ضمن مؤامرة « الربيع العربي » هو بالنسبة لهم « شنص » أو « فرصة « قابلة للانتهاز, هم كثيرون متنوعون . منهم دول وحكومات , ومنهم أحزاب وتنظيمات , ومنهم أشخاص من مختلف الجنسيات , وليس فقط من التابعية السورية . ووسط هذا الجو جاء سلوك جماعة الإخوان المسلمين والتنظيمات التابعة للقاعدة أو التي تنهل من نمط تفكيرها ليحتل حجماً ملموساً باعتبار أنها تنظيمات قائمة أصلاً . ولقد طبق جميع هؤلاء وآخرون غيرهم المنطق القائل : « إذا هبّت رياحك فاغتنمها » , وظن كل طرف منهم أنه يجلب الحظ الى نفسه , دون أن يتوقف عند السؤال البسيط عن المستفيد الأخير في نهاية المطاف من وراء كل ما يحدث , ذلك أن المستفيد الأخير من وراء المخطط الفتنوي الذي يديره الأمريكي إنما هو الكيان الصهيوني. وفي هذه الحالة فإن كل المتورطين في التنفيذ , ومهما كانت دوافعهم , إنما هم وقود للمؤامرة لا أكثر ولا أقل , وحظ كل طرف منهم في أن يخسر من وراء مشاركته في المقامرة بدل أن يكسب هو الاحتمال الأكبر .