وحبّ تسلُّط وشهوة سيطرة, وينبغي أن يؤمن الناس بأن لا أحد أعظم ولا أقوى, من الرجل الذي لايُشترى بمالٍ ولابجاهٍ. فمن ملكَ قلباً حراً ولساناً حراً, وحده يستطيع أن يسود العالم. ألا ترى معي أن «المُثل العليا» المحطَّمة, بحاجة إلى أن توضع من جديد شامخة, فوق عروشها الرخامية الجميلة»..
كلماتٌ قالها أديب, لأنه كان على استعدادٍ دائم لإعادة النظر في كلِّ أفكاره ومواقفه, ولأن طبيعته كانت قائمة على تحليل هذه الأفكار لا على تجميدها. أيضاً, لأنه لم يكن يعرف العداوة المطلقة وإنما الحب المطلق, تمكَّن من أن يبحث في مواضيعٍ لاتتناول زمانه فقط, وإنما كل الأزمنة التي امتدت إلى هذا الزمان. الزمان الذي نعيش مارواه عن كلِّ مافيه ويعنينا مثلما كان يعنيه.
أما من فعلَ كل ذلك, فالأديب والكاتب المسرحي «توفيق الحكيم» وفي أغلبية أعماله. تلك التي اختار أن يستظلّ في إحداها «تحت شمس الفكر» الكتاب الذي ضمَّنه مقالاتٍ عديدة, وفي الفن والأدب والثقافة. كذلك, الأخلاق والدين والسياسة.
نعم, هذا مافعله هذا الأديب الذي أبى إلا أن يعترف وفي مقدمة كتابه «عرفت النور ورأيت الجمال, لكني احترقت». اعترف بذلك بعد أن آمنَ طيلة حياته بـ «كرامة الفكر».. الكرامة التي ماأكثر ماطالب الرجال بامتلاكها, ولأن الرجولة الحقيقية برأيه, هي «أن يبذل المرء دمعه وماله وراحته وهناءه واطمئنانه, وكل أثير وعزيز عنده في سبيل شيءٍ واحد وهو «الكرامة».
بيد أنه أدرك, ماأدركهُ من سبقه ومن لحقه من الأدباء والمفكرين الداعين إلى التسلّح بالأخلاق والكرامة, وبالنور الذي لايمكن أن يُستبصَر من خلال ثقافات الآخرين, وإنما من الثقافة الشرقية. تلك التي آلمهُ وأوجعه أن يقوم البعض بمحاولة الإشاحة عن إشراقاتها, وفي الوقت الذي يسعون فيه عماءً للإدعاء, بأن كلّ مايرونه وينطقونه, ليس إلا بفضلِ إشعاعات الثقافة الغربية.
«أولئك هم الذين يشكّون ويشكِّكون في حقيقية وجود ثقافتنا, والذين بهرتهم انتصارات الثقافة الغربية المسيطرة على العالم, فأعمتهم أشعتها الساطعة وأقعدتهم وأسجدتهم, يسبِّحون بمجدها. ذلك هو العمى الحقيقي, والعقم والكسل».
إذاً, لقد بات من الواضحِ أن مثال هؤلاء وسواهم من المنقادين والمتأثرين بإشعاعات الغرب الحارقة, كانوا سبباً من الأسباب العديدة, التي جعلت «الحكيم» يشعر ورغم النور الذي استمده من إقامته الطويلة «تحت شمس الفكر» بأنه احترق.. احترق ألماً وفجيعة ممن يدعون أنهم أصحاب فكرٍ دون أن يكونوا برأيه, سوى عاهات تلهو «في الوقت الضائع», وهي المقالة التي يقول فيها:
«لقد تكوَّنت في العقلية العربية عاهة أرجو ألا تكون مستديمة, وهي ضمور عضلة التفكير والتحليل, وقد حلَّ محلّها عضلة لاتشعر إلا بالحبِّ أو الكره, ولاترى غير لونين الأبيض والأسود, وبذلك ظهر موقف التعصب, ثم الإرهاب والعنف.. إذاً, ما الحل؟. الحل في الديمقراطية الحقيقية. ديمقراطية تُطلب لمزاياها وأهمها, قدرتها على إبعاد الخطر المتمثل في التعصب الأعمى, والتجمّد الفكري الذي يضاهيه الإنفعال المؤدي إلى العنف والإرهاب».
هي إذاً, حرب العقل ضد الجهل وضد الإنقياد الأعمى للفكر الحاقد.. الحرب بكلِّ الأسلحة التي لم تكن لدى «الحكيم» سوى الديمقراطية.. طبعاً, الديمقرطية الصحيحة, وليست المفتعلة أو المزيفة, أو الناقصة أو التي تُستخدم لأغراض دعائية مظهرية.
ببساطة, هي الديمقراطية التي قال بأنها تحمل: «روح المساواة والإخاء وحرية الفكر والاتحاد في الوطن, فكل طعنة تصيب كتلة الوطن فتحلِّلها إلى عناصر وطوائف, إنما هي طعنة مسمومة تصل مباشرة إلى قلب الأمة وصميم الديمقراطية».
هذا مادعا إليه «الحكيم» وهذا ماظلَّ ينادي به إلى أن وافاه المرض وعجز إلا عن الكتابة.. تلك التي دوَّنها «في الوقت الضائع».. الوقت الذي نختم بما قاله فيه وتحت عنوان «الخمول الفكري»:
«هو أشدُّ أنواعِ الخمول خطراً, لأنه ليس من النوع الهادئ الذي يدلُّ عليه مظهره, بل هو خمول الرماد الذي يخفي تحته ناراً, ويكفي أن يضرب فيه نافخٌ دجال, حتى يشتعل ناراً هوجاء لاتدري ماستحدثه من دمار, وإذا كان هذا الخمول في الفكر, فهو مايمكن تسميته بـ «الفكر الغوغائي» وهو نقيض الفكر الديمقراطي, فهو هبوبٌ ترابيٌ غباري يملأ الجو ويعمي البصر, ويحولُ دون فتح عيون التفكير, في حين أن الفكر الديمقراطي, ريحٌ صافية تسمح بالجدلِ والآخذ والرد, وتنتج رأياً, وإذا اشتدَّت أحياناً وحدث تصادم في الآراء, فإن ذلك يكون كاحتكاك حجرٍ بحجر, ينتج ضوءاً ينير جوانب المسألة».