تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


رسالة من أبي الجود

ساخرة
21/2/2008
خطيب بدلة

لو سردنا على حضراتكم وقائع النحس الذي رافق بطل سيرتنا أبا الجود منذ لحظة قدومه إلى الحياة وهو يصيح (واع ويع),

وحتى هذه اللحظة, كما هي, أي من دون تدخل من قبلنا, لما كان لهذا السرد فكاهة - على حد تعبير أبي عنتر- ولا مازيّة, وما ذاك إلا لأن القصص المأساوية في حياتنا كثيرة, بل هي أكثر من الهم على القلب, وأما تحويل المادة المأساوية إلى مادة كوميدية مضحكة, فهو أمر صعب, ودونه كما يقول النحويون خرط القتاد (أي تشذيب الشوك!).., ولكنه, من جهة أخرى, عمل بارع, وممتع, ومفيد.‏

المهم, وبلا طول سيرة, طفش أبو الجود من إدلب إلى حاضرة الرشيد الرقة بعد أن حاصره الدائنون الذين كان يسميهم (الكباسين), حصار المبراة للقلم, فما عاد يستطيع الخروج من الحارة إلا في الصباح الباكر, أي قبل الشحادة وابنتها, ولا يستطيع العودة إليها حتى تنقطع الرجل منها, فلا يبقى فيها سوى الحارس والكلاب الشاردة, والبرد والطين وروائح الرطوبة والعفونة.‏

وأما أبو محمد, صديق أبي الجود الصدوق, فقد وقع في بلبال وحيص بيص, لأن أبا الجود وعده أن يكتب له عن أحواله فور وصوله إلى الرقة, أولاً بأول, ولكنه, مع ذلك, غط, وما عاد يسمع له صوت أو صدى.‏

وإذا كنتم أعزائي القراء قد تعرفتم حتى الآن على بعض ملامح شخصية أبي الجود, فاسمحوا لي أن أعرفكم على ملمح آخر شديد الأهمية, وهو أنه لا يتحدث عن فصول مأساته أمام أحد, إلا إذا وجد طريقة للتنكيت على هذه الفصول, بهذا المعنى يمكن القول إن أبا الجود سيميائي بارع, قادر على تحويل تنك البؤس والشقاء إلى ذهب الفكاهة والضحك والاستمتاع- على حد تعبير صديقي القاص المتميز أحمد عمر.‏

بعد سنة كاملة من غياب أبي الجود وصلت إلى أبي محمد منه رسالة فتحها بلهفة واستعجال, وشرع بقراءتها, فتملكه العجب والدهشة مما قرأ, إذ هل يعقل أن تنقلب أحوال أبي الجود رأساً على عقب خلال هذه المدة القصيرة, كما يزعم?!‏

يقول أبو الجود في رسالته بالحرف:‏

أخي أبا محمد‏

اعذرني أولاً للتأخر في الكتابة إليك, وأنت إذا عرفت سبب التأخير سوف تغفر لي إياه, فقد تحسنت أحوالي كثيراً هنا في الرقة, فبعد أن وصلنا الرقة بعشرة أيام ماتت عمتي التي أورثني إياها المرحوم أبي من جملة ما أورثني! وأنت تعرف أنني كنت أصرف عليها نقوداً كثيرة ثمناً للطعام, فقد كان لها طعام خاص يجب علي أن أؤمنه لها بموجب قائمة (ليصطة), وكنت أشتري لها الحلويات الناشفة كالزبيب والمربى والتمور التي ينصح بها لمرضى الكبد, إضافة إلى موسعات الشرايين وبخاخات للربو, وكانت فوق كل هذا تدخن بشراهة, وعلي أنا المفلس الزملوطي أن أؤمن لها سجائرها بالجملة, من مؤسسة الريجي مباشرة, لأن السجائر هناك أرخص من السوق.‏

بعد وفاة العمة الكريمة, الله يرحمها, نصحني أحد المحبين شرواك بأن أعمل بعد الدوام في بيع الخضار والفواكه, كالبندورة والفليفلة الخضراء والمنكا والآكي دنيا والبوملي, وهذه مآكل يحبها أهالي هذه المنطقة كثيراً.. فصرت أستيقظ قبل ذهاب القصابين إلى المسلخ, وأذهب إلى سوق الهال, وأشتري من كل صنف من الخضار والفواكه صندوقين, أبيع قسماً منها قبل بدء الدوام, ثم يصرفني المدير الذي تفهم وضعي المأساوي جيداً قبل ساعة من نهاية الدوام, فأذهب لاستئناف العمل في بيع الخضار والفواكه فما هي إلا ساعتان حتى أكون قد ربحت من النقود ما إذا حسبته على مدار الشهر فإنه يعادل ضعفي راتبي, فتأمل يارعاك الله!‏

وفوق كل هذا التوفيق الذي وفقته خلال هذه الفترة, حصل معي أمر يشبه الربح في اليانصيب. فثمة مساحة صغيرة من الأرض كانت لأبي في حارتنا بإدلب, استملكتها البلدية منذ سنوات, وقبل أيام أرسلوا إلي شيكاً بنصيبي من قيمتها, فأصبحت, وياللعجب! ألعب بالنقود لعباً!‏

قفلة الحكاية:‏

استمر أبو محمد يقرأ الرسالة ودهشته تكبر وتتعاظم, حتى وصل إلى آخر سطر فيها ويقول: هذا ما حصل معي بالضبط والله على ما (أكذب) شهيد!‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية