تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


التجربة الموءودة

الوحدة بين سورية ومصر
21/2/2008
د. خلف الجراد

المراجعة الموضوعية والعلمية المتوازنة لتجربة الوحدة السورية - المصرية (التي بدأت في 22 شباط عام 1958 وانتهت في 28 أيلول 1961)

تتطلب عملاً مؤسساتياً وجهوداً جماعية متكاملة, ومشاركة تعددية واسعة, تشمل إتاحة الفرصة لمجمل المنطلقات والاتجاهات والتيارات السياسية والفكرية والثقافية المعنية بدراسة هذه التجربة , سواء كانت مساهمة في صنعها بصورة مباشرة أو غير مباشرة, أو معنية ببحثها وتحليل مكوناتها وسيرورتها ومآلاتها, كعملية سياسية كانت لها نتائجها وانعكاساتها الكبيرة وربما الأكبر على مجمل الوضع العربي وخصوصاً الفكر القومي - الوحدوي في العقود الأربعة الأخيرة.‏‏

فمن أتيحت له فرصة الاطلاع على ما نشر من محاضر اللقاءات البرلمانية الجارية بين برلمانيي القطرين المنعقدة تباعاً في كل من القاهرة ودمشق, وما صدر عنها من توجهات وتوصيات وقرارات (في أواخر عام 1957 ) سيجد أنها جاءت في معظمها تكريساً لاندفاع عاطفي بين الشعبين الشقيقين ( تحقيقاً للآمال التي تعقدها الأمة العربية).‏‏

وتنفيذاً لهذه العواطف القومية الجياشة والصادقة أزيحت رغبوياً جملة العوامل والعناصر الموضوعية الموجودة في البلدين, وتم إبعاد مجمل التحفظات المسكوت عنها.‏‏

وإذا ما قرأنا - مثلاً- النقاط والقرارات الأساسية في الاجتماع البرلماني المشترك بين لجنة الشؤون العربية في مجلس الأمة المصري ولجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب السوري المنعقد بدمشق في 17 تشرين الثاني ,1957 سنجد أن التركيز كان جارياً على الشؤون الخارجية, ومواجهة الاستعمار والصهيونية, في حين أن الوضع الداخلي اقتصر تقريباً على مسألة توحيد الجيشين ( كنواة للجيش العربي الموحد).‏‏

وقد فهم من هذا الاجتماع أن التوجه كان ينحو أساساً إلى ( اتحاد فيدرالي), وليس إلى وحدة اندماجية كاملة , خلافاً لما حصل بعد أربعة أشهر!!.. والنص التالي, الذي أورده بحرفيته العماد مصطفى طلاس في الجزء الأول من مذكراته ( مرآة حياتي) يؤكد بصورة قاطعة المنحى المشار إليه , حيث جاء في قرار اللجنتين البرلمانيتين المشار إليهما : ( إن نواب المجلسين المجتمعين إذ يعلنون رغبة الشعب العربي في مصر وسورية بإقامة اتحاد فيدرالي بين القطرين يباركون الخطوات العملية التي اتخذتها الحكومتان السورية والمصرية في سبيل تحقيق هذا الاتحاد, ويدعون حكومتي مصر وسورية للدخول فوراً في مباحثات مشتركة بغية استكمال أسباب تنفيذ هذا الاتحاد)(1), أو على الأقل ( ليفهم من الرئيس عبد الناصر الحد الأدنى من الاتحاد الذي تقبل به الحكومة المصرية)(2).‏‏

وقد أشار إلى مسألة التخبط الكبير في هذه القضية الحساسة والاستراتيجية عدد من السياسيين والمؤرخين والعسكريين والمفكريين, ممن شاركوا في هذه التجربة, أو ممن درسوا وثائقها, أو حللوا أبعادها ومشكلاتها وأسسها الإيديولوجية والفكرية, مثل : أكرم الحوراني, وصلاح الدين البيطار, وخالد العظم, وخالد بكداش, ويوسف الفيصل, ومطيع السمان, واحمد عبد الكريم, واللواء محمد ابراهيم العلي, والعماد مصطفى طلاس ( من سورية) , وأنور السادات, وخالد محي الدين, وأحمد حمروش, ومحمد حسنين هيكل, وسامي شرف, ورفعت السعيد ( من مصر).‏‏

ويتبين من خلال تحليل محتويات تلك المصادر الأساسية أن رجال السياسة في سورية لم يكونوا مندفعين بالقوة نفسها, كما كان موقف ضباط الجيش لتحقيق الوحدة الفورية.‏‏

حتى أن جمال عبد الناصر طلب صراحة من السيد صبري العسلي رئيس مجلس الوزراء السوري آنذاك (عدم الاستعجال , وانتظار الفرصة المؤاتية).‏‏

ففي الوقت الذي قرر فيه مجلس الوزراء السوري إيفاد وزير الخارجية صلاح الدين البيطار إلى القاهرة ( لجس نبض مصر ومدى استعدادها للوحدة أو الاتحاد), ومن ثم العودة إلى دمشق لدراسة المقترحات والتوجهات المصرية والرد عليها تفصيلاً.. فوجئ البيطار لدى وصوله إلى القاهرة ( في 16 كانون الأول 1957) بوجود عدد من الضباط السوريين القادة, الذين سافروا إلى القاهرة دون علم الحكومة السورية, وكان على رأسهم قائد الجيش السوري اللواء عفيف البزري يتفاوضون مع الزعيم جمال عبد الناصر للغاية نفسها(3).‏‏

وطبعاً لم يكن وزير الخارجية ( صلاح الدين البيطار) هو المتفاجىء الوحيد بهذا الوفد العسكري, بل ان الحكومة السورية وزعماء الكتل البرلمانية كلها لم تكن تعلم بذلك.‏‏

ولا يستثنى من هذه التعمية وزير الدفاع آنذاك خالد العظم, الذي أشار بتعجب واستغراب في مذكراته الى أنه استقبل بمكتبه في صباح 12 كانون الثاني 1958 الزعيم ( العميد ) أمين نفوري معاون رئيس الأركان العامة, الذي قال له, وعلى فمه ابتسامة لم يدرك معناها خالد العظم:(اجتمع الإخوان وهو يقصد زملاءه رؤساء الشعب ورئيس أركان الجيش, وبحثوا قضية ( الاتحاد الفيدرالي مع مصر , فوجدوا أن الأفضل أن يكون الاتحاد على أساس الوحدة الشاملة...)(4) ثم قام النفوري بتسليم العظم نص المذكرة المطبوعة, التي تحوي مطالب الضباط ووفدهم( برئاسة البزري), ورؤيتهم لكيفية تكوين الدولة الموحدة, وفق الخطوط التالية:‏‏

1- دستور واحد يعلن إنشاء الجمهورية العربية الجديدة ويرسم نظام الحكم فيها, ويفسح المجال لانضمام بقية الشعوب العربية التي ستتحرر.‏‏

2- رئيس دولة واحد.‏‏

3- سلطة تشريعية واحدة.‏‏

4- سلطة تنفيذية واحدة.‏‏

5- سلطة قضائية واحدة.‏‏

6- علم واحد وعاصمة واحدة للدولة العربية.‏‏

إضافة إلى الأسس الناظمة للوحدة العسكرية, والموازنة الواحدة.‏‏

واختتمت المذكرة بالقول:( إن القيادة العامة للجيش والقوى المسلحة السورية.. تعلن أن كل وحدة لا تبنى على هذه الأسس.. ليست إلا تحالفاً بين جيشين تابعين لدولتين منفصلتين, ذلك لأن متطلبات الدفاع وسلامة الأمة وحفظ كيانها في عصرنا الحاضر تقتضي دمج الشعوب العربية المتحررة في كيان واحد لتساهم في تحرير بقية الوطن العربي وتقوم بواجباتها لصون السلم العالمي)(5).‏‏

وبعد أن تلا خالد العظم هذه المذكرة سأل الزعيم ( العميد) النفوري:( أما كان الأجدر أن تطلعوا الحكومة على قراركم وتبحثوا الأمر معها قبل أن تذهبوا إلى القاهرة?!), فأجاب بتلعثم:( هذا ما جرى), فقال العظم في نفسه:( هذا آخر انقلاب يقوم به الجيش, فإما أن يقبل عبد الناصر هذا الاقتراح.. وإما أن يرفضه, فيحل الجيش دوائر الدولة ويضع يده على الأمور ويتسلمها فيبعد الحكومة والمجلس معاً)(6).‏‏

وبعد أن يسرد خالد العظم الاشكالات والملاسنات والاشتباكات الكلامية والتحديات المتبادلة بشأن ما ورد في محاضر الاجتماعات المشتركة التي عقدت بين عبد الناصر والضباط السوريين, والاتفاق الذي تم بين الرئيس عبد الناصر ووزير الخارجية السوري صلاح الدين البيطار ( المفاجأة الكبرى, كما وصفها خالد العظم) يبدي ملاحظات واسعة, مؤكداً أنه طرحها أمام مجلس الوزراء السوري وكتلة الضباط الوحدويين, مع تذكيرهم دائماً بأن عبد الناصر نفسه لم يكن قبل سنتين من هذا التاريخ متحمساً لفكرة الوحدة الاندماجية الفورية!!.‏‏

والحقيقة أن التحفظات والملاحظات الأساسية,التي عبر عنها السياسيون والعسكريون والبرلمانيون والباحثون, الذين كتبوا في هذا الموضوع الشائك, تدل بصورة واضحة على أن ما حصل جاء مُحمّلا بتناقضات كبيرة, وينقصه التأني والدراسة المؤسساتية الجادة, والاستقصاءات المجتمعية والسياسية , إلى جانب صراعات داخلية مكشوفة ومستترة في إدارة الموقف السوري عندئذ, ومحاولة كل فريق توظيف الوحدة لصالح تكتله في مواجهة الفريق الآخر, وصولاً إلى نوع من المزايدة والانتهازية والمبالغة العاطفية- الاندفاعية في هذا المجال.‏‏

كما لابّد من الإشارة إلى أن الأخطاء الكبيرة والمتفاقمة في المسائل التنفيذية سواء في المؤسسة العسكرية, أو في الوزارات والمؤسسات المدنية, ولا سيما من جانب المشير عبد الحكيم عامر( ممثل الرئيس عبد الناصر في سورية), والدور السلبي والخطير لأجهزة عبد الحميد السراج القمعية ضد القوى والتيارات والشخصيات الوطنية السورية, بما في ذلك ضد الشركاء الأساسيين في إقامة الوحدة, إضافة إلى الضغوط والحصارات الخارجية الغربية, والأحلاف الإقليمية المعادية, والمؤامرات العربية والدولية.. تضافرت كلها وشكلت في مجملها التربة الممهدة والمناسبة لنجاح الانقلاب العسكري, الذي قامت به مجموعة صغيرة من الجيش, مدعومة من فئات سياسية واقتصادية واجتماعية وطبقية تضررت مصالحها في العمل الوحدوي, فكانت طعنة الانفصال, وقضي على حلم قومي عظيم, مازال حياً وخالداً في وجدان ووعي العرب وتطلعاتهم الحضارية المشروعة.‏‏

واليوم وبعد مرور خمسين عاماً على تلك التجربة الوحدوية الجريئة والعاطفية, لابد من التفكير دائماً بالعمل القومي, ولكن على أسس واقعية وعملية, بالاستفادة من دراسة تلك التجربة المغدورة, ومن الأطروحات الوطنية والتجارب الاقليمية العربية( مثل تجربة مجلس التعاون لدول الخليج العربية), مع الإحاطة الموضوعية بالتغيرات الزلزالية العاصفة , التي حدثت في العالم والمنطقة خلال هذه المرحلة, وما زالت ارتداداتها ومفاعيلها الخطيرة متتالية ومستمرة, ومنعكساتها مفتوحة على شتى التوقعات والمسارات والاحتمالات ˆ ˆ‏‏

(الهوامش)‏‏

(1) العماد مصطفى طلاس, مرآة حياتي, العقد الأول 1948-1958( دمشق: دارس طلاس للدراسات والترجمة والنشر, ط2 , 1991), ص .724‏‏

(2) مذكرات خالد العظم( بيروت: الدار المتحدة للنشر, 1973) , المجلد الثالث, ص .122‏‏

(3) العماد مصطفى طلاس, مرآة حياتي, العقد الأول, المصدر السابق, ص .725‏‏

(4) مذكرات خالد العظم, الجزء الثالث, المصدر السابق, ص .123‏‏

(5) المصدر نفسه , ص .125‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية