تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


القوميّة العرَبيّة بين الشعور وَ العقل.. تحية إلى الصديق الراحل الناقد الفذ والأديب المبدع رجاء النقاش

الوحدة بين سورية ومصر
21/2/2008
>منذ أيام غادرنا رجاء النقاش الذي كانت تربطني به روابط فكرية نادرة منذ ما يقرب من نصف قرن حتى اليوم.

وقد كان لي بمثابة الضمير الفكري والقومي, يحثني على ألا أنأى عن الأبحاث القومية, وعلى ألا أشرك معها سواها. فقد كان يرى فيها الرسالة الأساسية التي ينبغي أن أقدمها للأجيال العربية والتي أملك فيها زاداً غنياً ومغْنياً.‏‏‏

ومنذ بضعة شهور نأت عنا نازك الملائكة, صاحبة الشعر المبدع والمجدِّد, وحاملة شعلة الفكر القومي والنضال القومي.‏‏‏

‏‏

وقد كان بين الفقيدين المبدعين سجال رائع حول طبيعة الفكرة القومية وجوهرها. وقد نشرت مجلة الآداب البيروتية جانباً من هذا السجال الممتع, في مقالات عدة.‏‏‏

من هنا خطر ببالي - بل وجدت من واجبي - أن أدلي بدلوي, وأن أكتب مقالاً حول هذا السجال.‏‏‏

وقد نشرت مجلة الآداب مقالي في عددها الصادر في أيلول من عام 1960, وقد كان عنوانه: (القومية العربية بين الشعور والعقل).‏‏‏

وقد رأيت من الواجب والمفيد أن أنشر هذا المقال من جديد, لا سيما أن الفكر القومي العربي في سورية وفي سائر البلدان العربية يشهد مخاضاً جديداً نرجو أن يُؤتيَ أُكُلَه.‏‏‏

القوميّة العرَبيّة بين الشعُور وَالعقل‏‏‏

بين الصديقة الآنسة نازك الملائكة والصديق الأستاذ رجاء النقاش جدال, جدال خصيب. وأول ما يجذب إليه أنه جدي صادق, يقوم به كاتبان يقدسان اللفظ ويعرفان مسؤوليته. ورغم ما تؤدي إليه المعارك الأدبية عادة من غلو وإمعان في استمساك الفرقاء بوجهات نظرهم, لا نلفي في هذه المعركة إلا القليل من هذه المقارعة بقصد الانتصار وحده, وتظل السمة الغالبة على هذه المناظرة سمة القناعة الذاتية قبل الإقناع, ومحاورة الفكر لنفسه قبل غلبته على غيره.‏‏‏

والحق أننا أحوج ما نكون في هذه المرحلة من حياتنا إلى أن نسائل قبل الكتابة, وقبل الكتابة في موضوعات خطيرة كموضوع القومية العربية, عن الجدوى الحقة التي ترجى مما نكتب, وعن مبلغ قناعتنا بأن ما نلقيه على الورق يصدر عن إيمان فكري عميق مدروس, وأنه لا يزيد في الاضطراب القائم حول هذه الموضوعات الهامة التي أصابها من القلق والفوضى ما أصابها.‏‏‏

ولا شك أن المناظرة التي نشير إليها تكوِّن خطوة مفيدة في فهم القومية العربية, وتسهم إسهاماً ذا بال في طرحها طرحاً واضحاً. وعلى الرغم من التباعد الظاهر في وجهتي النظر, يظل من الصحيح, إن نحن قرأنا وراء السطور قليلاً, أن اللقاء قائم. إنه قائم أولاً وقبل كل شيء على أرض الحرص المشترك على جلاء الفكرة العربية جلاء يؤدي إلى مزيد من قوتها وتمكنها. ومن الجميل حقاً, بل مما يحمل دلالة عميقة, أن يبلغ الحرص على توضيح الفكرة القومية حداً يجعل المخلصين لها في عراك عميق وصراع حاد. ومثل هذه الظاهرة تنبيء دون شك عن أننا بدأنا نجتاز في حياتنا القومية مرحلة جدية جديدة وهامة: فبعد أن كان الصراع قوياً بين المنتصرين للقومية العربية وبين أعدائها, انتقل الصراع إلى ما بين الدائنين بالفكرة القومية أنفسهم. وهذا يعني أن شعوراً عميقاً أخذ يراود الطبقة المثقفة في البلاد العربية, قوامه أن القومية العربية التي انطلقت واشتدت, غدت يخشى عليها من داخلها أكثر مما يخشى عليها من خارجها. إنه يعني الشعور بأن تفتح القومية العربية غدا مرتبطاً أعمق الارتباط بالملامح الواضحة التي نهبها لها, وبأن معرفة المبدأ والنهاية, والتساؤل إلى أين المسير, وما جوهره, أمور غدت راهنة ملحة أكثر منها في أي وقت مضى.‏‏‏

على أن اللقاء بين الصديقين يجاوز هذا الميدان العام, ميدان الحرص المشترك على القومية العربية وانطلاقتها. إنه في الواقع قائم فيما يجاوز هذه الرغبة العامة. ومما يمتاز به هذا الجدل حقاً, أن كلاً من وجهتي النظر تلمس جانباً صحيحاً من جوانب الفكرة القومية, سوى أن كلاً منهما تطل من أفق غير أفق الأخرى. وكلمة الشاعرة الكاتبة الكبيرة الآنسة نازك, التي كانت منطلق الجدل, تريد أن تقول أشياء لها شأنها في فهم الفكرة القومية, غير أنها لم تضعها في إطارها الذي ينبغي أن توضع فيه, فأثارت اللبس والتساؤل. وكان من حق الأستاذ رجاء أن يسائل عن قصد أوضح للفكرة التي قالتها الآنسة نازك, وهو في تساؤله هذا قد التقى بها في جوهر فكرتها, سوى أنه أعرب عن غموض القصد الذي تريده تلك الاندفاعة العاطفية الصادقة. وكان عليه أن يضع ذلك القصد في مكانه الطبيعي من الفكرة العربية, وأن يبين أن من الواجب أن يحدد ميدانه لئلا يفسر تفسيراً خاطئاً.‏‏‏

الوجود القومي وجود حي‏‏‏

فالآنسة نازك أرادت في أعماق ما أرادت أن تعبر عن فكرة أساسية في كل تفكير قومي, لم تفصح عنها إفصاحاً صريحاً, ولكنها أطلقتها بين نيران عواطفها الثرة. تلك الفكرة هي القول بأن الوجود القومي واقع حي قائم, سابق على اكتشافنا له, متقدم على تصورنا إياه. إنها أرادت أن تبدأ من بداية كل تفكير قومي لتقرر هذه البديهية الأولى وهي أن وجود الفرد جزء لا يتجزأ من وجود أمته, وأن الأمة سابقة على الأفراد, وأن كل فرد يغتذي منذ ولادته بحضارة أمته وتراث قومه, فيولد قومياً, ويترعرع ابن أمة معينة. ومجرد وجوده في مجتمع قومي معين يعني تكونه على غرار هذا المجتمع ونشوءه على تقاليد أمته ومنازعها ونظرتها إلى الكون والأشياء. ومن مكرور القول أن يقال إن تربية الطفل منذ ولادته تعني الاندماج في البيئة الحضارية التي ولد فيها, وامتصاص مقومات الحياة القومية التي يعيش وسطها منذ اللحظة الأولى.‏‏‏

إن من المقومات الأساسية لكل تربية يتلقاها الناشئ في مجتمع معين, أن يجد الفرد نفسه في جملة تطور ذلك المجتمع, وأن يتجاوز الحدود الضيقة للزمان الذي يعيش فيه والمكان الذي يدرج وسطه, ليجد نفسه في نهاية الأمر ممتداً في زمان واسع ومكان أفسح, هما زمان أمته ومكان أمته, ومن ورائهما الزمان الإنساني والمكان الإنساني اللذان لا يدركهما إلا من خلال أمته. إنه يخرج من حاضره ليجد نفسه, وجوداً أكثر انسجاماً وعمقاً, في مجموع تطور أمته. إنه يجد ما يدعوه الفلاسفة بالتاريخية, نعني التعلق بالتاريخ الحالي في حياته كلها.‏‏‏

إن كل فرد إنساني ليس كائناً بسيطاً, كما يظن, وإنما هو مجموعة كائنات. إنه يتألف من التقاليد التي تربطه بأجداده, ومن المشاعر التي تشده إلى أولئك الذين يعيشون معه في بلد واحد وضمن تراث حضاري واحد. ولا حاجة إلى أن نذهب إلى القول بنظرة عرقية وراثية, كيما نؤكد بأن أجدادنا حالُّون فينا, يتكلمون ضمننا. فمما لا جدال فيه أن )الأنا( الحقيقي لا يتكون إلا من الجماعة وفيها. وهذه الجماعة هي قبل كل شيء الأمة وتراثها. ومن هنا نادى مثل أوغوست كونت, بأن (الأجداد هم الذين كونونا على ما نحن عليه), ونادى مثل الشاعر (سولي برودوم): (عرق وتربية), وقال مثل (باريس Barrès) (الأرض والأموات).‏‏‏

إن هذه الأقوال كلها, رغم اختلاف منازعها, تفصح عن حقيقة أساسية وهي أن الفرد ابن تربته القومية وهوائه القومي. وفي هذه التربة وحدها ينمو نمواً طبيعياً سليماً, وفي ذلك الهواء وحده يتنفس تنفساً سوياً. إنها تبين أن الأمة هي الإطار الطبيعي للإنسان, فيها تتفتح إنسانيته على أكمل وجه, وعن طريقها يجد الإنسان ويجد الروابط الإنسانية المثلى التي تربطه بغيره من أبناء العالم. إنها تؤكد أن القومية هي المتكأ الطبيعي لكل نزعة إنسانية وروحية سامية. وعندما تتراجع الحضارة القومية فمعنى ذلك تراجع الحضارة الإنسانية لا محالة.‏‏‏

إننا, كما يقول )بورجيه Bourget( )أجدادنا ومعلمونا وإخواننا الذين يكبروننا. إننا كتبنا ولوحاتنا وتماثيلنا.. والفرد منا مثقل بإرث ضخم ليس من صنعه(.‏‏‏

الآنسة نازك انطلقت إذن من هذه الفكرة الأولى البدهية في كل تفكير قومي, نعني القول بأن الفرد ابن أمته شاء أم أبى, وأنه مغموس في الحياة القومية منذ ولادته. وبهذا المعنى فالوجود القومي وجود أصيل يفرض نفسه, وهو أقوى من كل تزييف له. والمشاعر القومية مشاعر غنية عارمة في نفس الإنسان. والفكرة القومية عندما تعمل للانبعاث القومي تستند في حقيقتها إلى واقع حي, واقع أصيل, ولا تخلق واقعاً غير موجود.‏‏‏

الفكرة القومية فكرة ضرورية:‏‏‏

ومن هنا ينتج عن هذا التقرير الأول, تقرير ثان ملازم له, هو القول بأن الفكرة القومية ليست مجرد فكرة يختارها الإنسان اختياراً, وكان في وسعه أن يختار غيرها. إنها فكرة ضرورية بالمعنى الفلسفي للكلمة, فكرة لازبة. إنها لا تتكون عن طريق الإرادات الفردية, وإنما هي سابقة على هذه الإرادات تجثم فوقها. والإرادات الفردية حين تسير في اتجاهها الطبيعي السوي لابد أن تجد نفسها ضمن الإرادة القومية. وكل محاولة منها للخروج على هذه الإرادة مغالبة للبنية الطبيعية للإنسان. والفرد عندما يعي وجوده حقاً, يعي قوميته ويلفيها في هذا الوعي لوجوده. وفي أعماق القومية ضرب من القبول بجبرية مفروضة على الإنسان, ولكن من داخله لا من خارجه. وكما نقرر بأن أرضاً ما صالحة لزراعة الكرمة أو القمح أو البرتقال, علينا أن نقرر أن هذه الأمة مخلوقة لتشعر شعوراً عربياً أو فرنسياً أو ألمانياً. ولعل هذا ما تعنيه الآنسة نازك حين تقول بلغتها الجميلة: (إن القوت هو فضيلة الشجرة التي تنبته, وأما العروبة فهي فضيلتنا نحن, بنفس الأسلوب) وحين تقول أيضاً: (وأما العروبة فهي فضيلة جبرية لا يستطيع الإنسان أن ينزعها ولا أن يقاومها. إنها نحن, ولن نفقدها إلا إذا فقدنا دمنا ووجودنا نفسه(. وهذا ما أكده مثل (باريس Barrès) حين قال: (إننا منتجات ضرورية أنتجتها أمتنا), وحين صاح: (إن أي مفهوم نكوِّنه عن فرنسا لا يمكن أن يكون له شأن إذا كان ضد فرنسا الواقعية, فرنسا بلحمها ودمها).‏‏‏

ومن هنا كان وراء الإيمان القومي دوماً جانب عاطفي هام. ففي جذور الفكرة القومية حال من الإحساس العاطفي. والعقل في هذا المجال لا يحتل إلا جانباً ضئيلاً في سطح حياتنا. وهو على أية حال لا ينفصل عن الحياة العاطفية, ولا يستطيع أن يكون منتجاً فعالاً إلا إذا انطلق أولاً من هذا الوجود العاطفي الغالب.‏‏‏

إن ظواهر الحياة الاجتماعية, وعلى رأسها الحياة القومية, ليست أموراً تجري وفق الأهواء والصدف, بل هي ظواهر تخضع لقوانين ثابتة لا تتخلف. والمهمة الأولى في تطوير أي ظاهرة اجتماعية هي معرفتها حق المعرفة, معرفة طبيعتها وقوانينها. فمثل تلك المعرفة هي التي تمكننا من التأثير فيها, ومن تشكيل الظروف تشكيلاً جديداً ملائماً لتطويرها. وكل معرفة قوة, ونحن لا نقوى على أن نحكم الطبيعة كما قال بيكون, ما لم نطعها, أي ما لم نعرف قوانينها.‏‏‏

الأمة قبل القومية‏‏‏

ومن هنا يستبين أن المذهب القومي الذي تدين به أمة من الأمم, يعتمد أولاً وقبل كل شيء على هذا الواقع الحي, واقع الوجود القومي. فهو بهذا المعنى ليس مذهباً مصنوعاً مجلوباً, ولا نظرية نُكونها من بنات أفكارنا, أو (أسطورة) نخلقها كما أراد (روزنبرغ) في كتابه الشهير (أسطورة القرن العشرين), إن هذا المذهب يسقي جذوره من واقع حي ضروري. ونتيجة هذا أن ملامح هذا المذهب تتحدد وتتعين بهذا الواقع. ولا نقول إنها تحذو حذو هذا الواقع تماماً وترسمه أو تعيده. بل نقول إنها تبدأ منه, فترسم ما ينبغي أن يكون من معرفة ما هو كائن.‏‏‏

ولهذا صح أن نصف المذهب القومي بأنه ضرب من الدراسة العلمية الموضوعية لواقع الأمور بغية استخلاص مقوماتها واتجاهاتها وصبواتها. ونحن ههنا لسنا أمام بناء أيديولوجي نقوم به, وإنما نحن أمام ملاحظات علمية نستخلصها. فللجموع نفسها قوانينها, كما قال (غوته) في فاوست. وما نسميه باسم المذهب, سياسياً كان أو قومياً, ليس في الواقع, كما يقول (موراس) شيئاً تستنتجه استنتاجاً عقلياً وإنما هو استقراء, استقراء للواقع وللصلات القائمة بين - الوقائع, تلك الصلات التي يدعونها قوانين.‏‏‏

ومهمتنا كما يقول أيضاً, هي أن نستنتج من التجربة التاريخية للأمة قوانين المجتمع السياسي الذي نريده. إنها تعني أن نبحث عن الدستور المكتوب في الدستور الحي الذي يعيشه الشعب.‏‏‏

القومية إذن هي المذهب الذي نرسمه لحياتنا القومية. وهي بهذا المعنى شيء سابق لا لاحق على الأمة. فالأمة هي الموجودة أولاً, وهي التي تحدد معالم هذا المذهب. غير أن هذا يعني أن نبدأ بالإفصاح عن شيء لم يكن ضمن ميدان البحث الذي كتبته الآنسة نازك, وهو الذي بدأ منه الأستاذ رجاء. هذا الشيء هو أن المذهب القومي لا يكتفي بأن يقرر بأن الشيء موجود وكفى, ولا يكفيه أن يعتمد على هذا الوجود الحي القائم, وجود الأمة.‏‏‏

فوجود الأمة وجود يجاوز الوجود الفردي كما قلنا, وشعور الأفراد به شعور ذائع عضوي إن صح التعبير. واحتياز الشعور الفردي لهذا الوجود احتيازاً واعياً أمر لا يتم إلا بعد تربية وجهد. وهو يزداد قوة ومنعة كلما رقى في فهم هذا الوجود القومي وإدراك مقوماته.‏‏‏

ولهذا كان لابد أن نربط بين الشعور القومي الغامض وبين مبررات وجوده, ولابد أن نعرف هذا الشعور على حقيقة ذاته ونكشف له عن كامل كيانه. وعملنا هذا هو في الوقت نفسه تثقيف لهذا الشعور وارتفاع به من مستوى الإدراك العفوي إلى مستوى الإدراك الواعي. نعم لابد أن نربط هذا الشعور الحي بجذوره الواقعية, وأن نمده بالمشاهدات العلمية والاستقراء الموضوعي للواقع. والمذهب القومي في نهاية الأمر هو هذا الربط بين العاطفة والمنطق, هذه الصلة الوثيقة بين الإحساس العفوي والعلم. والوعي القومي هو الشرارة التي تنبثق من لقائهما.‏‏‏

إن الشعور القومي, إذا لم يؤيد بالتفكير الذي يشده إلى أصوله ويكشف له عن هويته, يظل شعوراً غائماً معروضاً للتقلب والشك. غير أن التفكير القومي بدوره, إذا لم نربطه بأصوله الواقعية وإذا لم نجعل منه استخلاصاً للواقع, الواقع الحي القائم في النفوس, والواقع التاريخي والاجتماعي للأمة, يغدو تفكيراً طوبائياً مقتسراً. وتحقيق اللقاء بين هذا الشعور الذي يعتمد في أصله على وقائع عقلية وتجريبية, وبين التفكير الذي لا يُفصَل في جوهره عن الإحساس الذي يغذيه, هو العمل الذي يقوم به المذهب القومي.‏‏‏

المذهب القومي‏‏‏

ومعنى هذا كله أن القومية مذهب ونظرية ولا تقف عند مجرد تقرير الوجود القومي. إنها لا توجد الشعور القومي دون شك, ولا تخلقه, ولكنها تنطلق منه لتكشفه بنور العقل وتضيئه بمصباح العلم, وتحدد مجالات انطلاقه كما ينبغي أن تكون.‏‏‏

ذلك أن المذهب القومي, كما قلنا, يستند إلى الواقع ليرقى منه إلى تطوير هذا الواقع وتوجيهه. وليس هذا المذهب مجرد تسجيل لذلك الواقع. إنه وعي إنساني يرسم هدفاً ويضع خطة, مدركاً تمام الإدراك أن الهدف والخطة لا يمكن أن يبنيا من عدم ولابد أن يسقيا إمكانياتهما من المعرفة بالواقع وشروطه. إن ثمة فارقاً كبيراً بين وجود الشيء وبين وعي الإنسان لهذا الوجود. والوعي عملية إبداعية, فيها خلق جديد للشيء الذي نعيه. إنه يفترض دوماً أن ننطلق من فهمنا للشيء وإدراكنا له إلى امتلاك ناصيته وتوجيهه وجهة جديدة, نحو هدف ومثل أعلى.‏‏‏

هكذا يؤدي إدراكنا لوجود العرب القومي ولعمق مشاعرهم القومية, إلى أن نسير بهذه المشاعر نحو موقف فعال, فنعبئها بالأحاسيس الروحية الخلاقة, حين نبين لها هدفها وغايتها. وعن طريق تشقيق الوجود القومي أمام أعين أبناء الأمة العربية, نجعلهم يدركون عناصر هذا الوجود الأساسية ومقوماته الموجهة له: إنهم يدركون مثلاً أن وجودهم القومي عبر التاريخ كان دوماً وجوداً ترتبط فيه المشاعر القومية بالمشاعر الإنسانية, وتنأى فيه النزعة القومية عن أن تأخذ شكل نزعة متعصبة أو معادية لشعوب أخرى. أو يدركون أن تفتح هذا الوجود القومي يرتبط بتحقيق مجموعة من الشروط الاقتصادية التي تحرر الفرد من أثقال أوضاعه ومن قيود حياته المادية لتجعله قادراً فعلاً على الإبداع والعطاء من أجل نفسه وأمته والإنسانية. أو يدركون فوق هذا أو ذاك أن وجودهم القومي السليم مرتبط بخلاصهم من الاستعمار الخارجي إلى جانب الاستثمار الداخلي.‏‏‏

إن الفكرة القومية لا تعني مجرد الشعور بالانتساب إلى أمة. بل تعني فوق هذا إدراك مقومات هذا الانتساب, أي مقومات هذه الأمة. وإدراك المقومات, ليست عملية سكونية سلبية فحسب, يكفي فيها أن نحلل الأمة تحليلاً آلياً, لنستخرج خصائصها, وإنما هو عملية حركية متجددة, تعني أن ندرك الوحي العميق لحياة الأمة ونظرتها العميقة إلى الكون والأشياء, أي أن ندرك من خلال واقعها صبواتها ومثلها العليا ورسالتها.‏‏‏

وهكذا ينقلب الشعور العميق بوجود الأمة إلى شعور برسالتها وفلسفتها, أي إلى مذهب ونظرية. فالمذهب هو ذروة الشعور القومي حين يداخله الوعي الإنساني ليحلله ويخرج من تحليله منازعه واتجاهاته. وعندما يتم مثل هذا التحليل العقلي العلمي الخصيب تلتقي إرادات الأفراد بإرادة الأمة, وتكون من هذا الانطباق والتلاصق قوة فعالة عنيفة.‏‏‏

ومن هنا كان من واجبنا في هذه المرحلة من حياتنا ألا نخشى من العقل ونوره على الشعور القومي, وأن ندرك على العكس أن شرارة العقل هي التي تستطيع أخيراً أن تضيء مجاهل هذا الشعور وتبين له سبيل السلوك والعمل. وعند ذلك يغدو الشعور محملاً بقوة مضاعفة, قوته الأصلية الفطرية وقوته الجديدة التي اكتسبها عن طريق إنارة العقل له. إن ذلك الشعور في حاله الفطرية أشبه بإدراكنا العفوي للأشياء الخارجية, قبل أن نحللها ونعيد بعد ذلك تركيبها. أما بعد أن نضيئه بنور العقل, فيغدو أشبه بإدراكنا التركيبي للعالم الخارجي, ولكن بعد أن حللناه من قبل ووعينا أجزاءه ومقوماته. إن الشعور القومي, حين يعرّف العقل والعلم على وجوده ومقوماته واتجاهاته, لا يفقد صفته العاطفية الصارمة كما قد يظن, بل يكتسب سمات عاطفية جديدة أعمق وأوثق لأنها واعية مدركة, ولأنها اكتشفت خاصة الهدف والغاية عن طريق معرفتها لذاتها.‏‏‏

إن العقل لم يكن في يوم من الأيام خطراً على العاطفة, وليس من الصحيح أنه أداة تشكيك وإحجام. إنه يلتقي في ذروته مع تكون عاطفة جديدة وصوفية جديدة. ولكن هذا لا يتم إلا عندما يقوم بوظيفته حق القيام ويبلغ غايته حقاً.‏‏‏

وأياً كان الأمر, فالعقل والوعي العقلي ملكة الإنسان العليا, ولا يجوز أن نحجبه عنها, ولا يجوز أن تمنعنا بعض مخاطر الطريق من اقتحام ميدانها حتى النهاية.‏‏‏

ومثل هذا الموقف ضروري دوماً دون شك, إذا أدركنا أن الوعي خير ما يرقى بالإنسان نحو المصاف العليا في إنسانيته. غير أنه ضروري خاصة في عصرنا هذا, وهو لغة التخاطب الأولى فيه. وليس من الجائز أن نرضى للقومية العربية بوجود عفوي شعوري خالص, في عصر ظهرت فيه المذاهب المختلفة, وقام الصراع بين المذاهب الفكرية والسياسية كأعنف ما يكون. والقومية العربية ينبغي أن تكون في نهاية الأمر مذهباً قادراً على أن يضاهي المذاهب الأخرى ويحدثها بلغتها ويدلي دلوه بينها - وليس مثل هذا المطلب بالعسير كما قد يخيل, لا سيما بعد أن استبان الكثير من قسمات هذا المذهب القومي العربي وأخذ الوعي يفتّح جنباته يوماً بعد يوم.‏‏‏

على أن البواعث التي قد تدعونا أحياناً إلى التخوف من البحث العقلي في القومية العربية, هي في الواقع قمينة بأن تدعونا إلى مزيد منه. إن مما يغضب أحياناً تلك الشكوك الفكرية التي أقامها فريق من المثقفين في وجه الفكرة العربية. غير أن هذه الشكوك, التي تكونت بنتيجة أفكار مدسوسة من أعداء الأمة العربية, أو بنتيجة انحرافات عقلية لدى مثيريها, أو بنتيجة المرحلة الزمنية التي تمر بها حياة العرب, لا يمكن أن تجلى إلا عن طريق مزيد من الفكر والوعي. ولئن كانت غير قادرة على أن تزيل الوجود العربي كوجود, فهي مع ذلك قادرة على أن تخلق الركود والفوضى في هذا الوجود. وقد قلنا ونقول إن وجود الشيء يتوقف من الوجهة العملية (من وجهة السلوك) على مبلغ وعينا له وإدراكنا لمقوماته, على مبلغ اللقاء بين ذاتنا الظاهرة المكتسبة وذاتنا العميقة التي تمتُّ في جذورها إلى ذلك الوجود. والوجود العربي كما قلنا ونقول يصبح وجوداً منطلقاً متجهاً ذا غاية عندما نكشف عنه وعن مقوماته ومنازعه الممكنة والواجبة. وهو على العكس يظل وجوداً راكداً متثاقلاً غير ذي وجهة إذا لم نجله جلاء يقوى على أن ينضو عنه الأقنعة والأغشية ويبدد الشكوك والقلق.‏‏‏

وكلنا يعلم أثر الأفكار المنحرفة المشككة التي أصابت الفكرة العربية, ويعلم أن هذا الأثر لم يقف عند حدود محاولات المستعمرين, وإنما جاوزها إلى أبناء الأمة العربية أنفسهم, فإذا بأفكار خاطئة ضالة تعشش في رؤوس طبقة من أبناء الأمة العربية وتأخذ سبيلها أحياناً إلى الانتشار. ولا يجوز أن نكتفي بأن نقرر خطأ الفكرة, وبأن نؤكد بأنها لن تقوى على مغالبة طبائع الأشياء وحقيقة الوجود القومي. فالفكرة فكرة شئنا أم أبينا, ولا يجوز أن نعدها ضالة أو مجرمة ما لم نجبهها بفكرة أخرى.‏‏‏

لقد عددنا في كتابنا (التربية القومية)(1) بعض الأفكار الخاطئة التي غزت فكرة القومية عامة والفكرة القومية العربية خاصة, ولا حاجة الآن إلى الحديث عنها من جديد. وحسبنا أن نذكر أن هذه الأفكار عبء على الحركة القومية, ومعطلة لسلوكها وانطلاقها, إذا لم نصهرها ضمن وعي أعم وأسلم. وينبغي أن ندرك دوماً أن وجود الشيء لا يكفي لانقلابه إلى سلوك وحركة, وأن الوجود الواعي المفكر هو وحده الذي ينقلب إلى سلوك وأسلوب في الحياة. ووجود الشعور القومي, وجود الأمة العربية, يظل وجوداً ساكناً ويظل معروضاً للنكوص والضعف, إن لم يغذه وعي مستمر متجدد, يربطه بالزمن وبالتجربة القومية والعالمية.‏‏‏

ومن هنا كان العمل القومي نضالاً متصلاً وكفاحاً يومياً. وهذا الكفاح لا يعني مجرد العمل على إذكاء الشعور القومي وتحريضه, بل يعني رسم طريق علمية واضحة ينطلق فيها هذا الشعور ويتخذ ضمنها إطاراً متيناً لسيره. وبدون هذا الإطار, يتعرض الشعور القومي نفسه للضعف والانحراف أحياناً. وهذا الضعف والانحراف لا يقعان لدى الطبقة المثقفة كما قد يظن, بل يقعان في مستوى الشعور القومي العام لدى أبناء الأمة كلها. ذلك أن الشعور القومي ليس شعوراً معلقاً في الفراغ, وإنما هو شعور ذو محتوى ومضمون, وهو ينقلب إلى اجترار فارغ إذا فقد ذلك المحتوى والمضمون وضل الصوى التي يعمل بهديها. إن النضال في سبيل تحقيق مجتمع اشتراكي هو مثلاً من محتويات هذا الشعور. ومن شأن هذا النضال أن يجعل الشعور القومي أكثر حياة وقوة, حين يبين له أن تحقيق الاشتراكية هو الوسيلة المثلى لتفتيح الحياة القومية والإبداع القومي.‏‏‏

إننا لا نستطيع أن ندفع الشعب لعمل دائم متصل, إلا عن طريق المبادئ. والمبادئ المنسجمة المنظومة في كل واضح معقول, هي التي تحرك جماهير الشعب وهي الإطار المشخص لمشاعرهم القومية المجردة. وبمقدار ما تكون المبادئ واضحة مشرقة في النفوس يكون الشعور معها وتكون العاطفة في قلبها.‏‏‏

خاتمة:‏‏‏

إن الذي أردنا أن نقرره إذن هو أن الوجود القومي وجود قائم حي. ولكن الفكر والوعي أبرز مظاهر الحياة. ولا يكتمل وجود الشعور القومي وجوداً حياً حقاً إذا لم يكشف عنه الفكر ويدله على حقيقته ومنازعه.‏‏‏

تلك حقيقة بدهية. ونحن على يقين أن كلاً من الآنسة نازك والأستاذ رجاء يوافق عليها. بل إن كلاً منهما ما أراد أن يقرر سواها. سوى أن الآنسة نازك أرادت أن تزيد في إيضاح الجانب الأول منها, نعني كون الفكرة القومية فكرة حية قائمة, تجاه بعض المحاولات التي يذهب بها التشكيك إلى حد إنكارها, وتجاه بعض البحوث التي تنساها ولا تبدأ منها. أما الأستاذ رجاء فقد أراد أن يمعن في إكمال هذا الجانب الأول عن طريق بيان تتمته الطبيعية, نعني ضرورة الإدراك العقلي الواعي لهذا الوجود الحي إدراكاً يهبه وحده معناه واتجاهه ونجعه. ولا شك أن الأخذ بأحد الجانبين دون الآخر خطأ وضلال. ولا شك أن الجمع بينهما في كل واحد هو الموقف السليم. ومثل هذا الموقف السليم نجده في أقوال الآنسة نازك كما نجده في أقوال الأستاذ رجاء.‏‏‏

فالآنسة نازك تؤكد أنها تبحث في القومية العربية من حيث وجودها الحي في النفوس, وأن عنوان مقالها (القومية والحياة) وأنها تتحدث عن العروبة (باعتبارها العاطفي والإنساني لا باعتبارها الاقتصادي والسياسي). وتعيد كرة بعد كرة أن بحثها لم يدر إلا حول وجود العاطفة القومية ومبرراتها التي تجعلها ضرورية, وإن كانت تندفع من وراء هذا إلى بعض المبالغات التي يقصد منها مزيد من الدفاع عما تريد.‏‏‏

أما الأستاذ رجاء فيسير في بحثه سيراً منطقياً, فلا ينكر أصالة الشعور القومي ولكنه ينكر أن يكون نهاية المطاف في العمل القومي, ومن حقه أن يقف وقفة خاصة عند قيمة التوضيح الفكري للقومية العربية, وأن ينادي بضرورة الربط بين الفكرة القومية والأفكار العلمية. سوى أنه لا يشير إلى ما في فكرة الآنسة نازك من جانب خصب غني, جدير بأن يوضح ويشرح, ويخشى وهو على حق ألا يدرك القارئ منها إلا الجانب الخيالي.‏‏‏

ولا شك أن مثل هذه المعركة الفكرية تحسن إلى الفكرة القومية, إذ تساعد على جلائها, والكشف عن بعض صفاتها, عن طريق البحث المتمذهب الذي من شأنه دوماً أن يساعد على الجلاء والوضوح وأن ييسر الوصول إلى رأي منصف غير مسرف, يجمع بين الأضداد جمعاً وثيقاً ويخرج منها بمركب صحيح. والمعركة حول هذا الموضوع بالذات قديمة سواء في العالم الغربي أو في عالمنا العربي, ولعل هذه المعركة الفكرية الأخيرة ثمرة ناضجة لها, لخصت في عنف وحرارة مختلف جوانبها, وساعدت على الكشف عن حقائق كثيرة, إذ قيض لها أن يسهم فيها كاتبان قويان صادقان هيئ كل منهما لأن يمثل واحدة من وجهتي النظر أعنف تمثيل.‏‏‏

(1) التربية القومية, منشورات دار الأدب بيروت 1960.‏‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية