عبر ندوة التراث الشعبي: وحدة الأصل والهدف.التي أقامتها وزارة التعليم العالي (المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية), حيث تطرقت للكثير من القضايا الثقافية والفكرية والاجتماعية, وفيما يخص علاقة التراث بالتربية والتعليم والتنشئة, برزت طروحات عديدة ووجهات نظر أكدت دور التراث وتأثيره وأهميته في حياة مجتمعنا العربي تحديداً, من قبل أساتذة جامعات عرب لهم أبحاثهم ودراساتهم الخاصة في هذا الإطار.
لا يمكن الاستغناء عنه
فكانت البداية مع الدكتور علي محمد المكاوي مدير مركز البحوث والدراسات الاجتماعية - كلية الآداب (جامعة القاهرة) فقال: التراث يعني بما يعنيه المعتقدات والعادات الاجتماعية, القيم والآداب والفنون والحرف والمهارات وشتى المعارف التي أبدعها المجتمع عبر تجاربه الطويلة, فتداولها أفراده وتعلموها بطريقة عفوية ثم التزموا بها في سلوكهم وتعاملهم, فتمثلت أنماطاً متميزة ربطت الفرد بالجماعة, ووصلت الماضي بالحاضر, وتمهد للمستقبل, من هنا فالتراث يشكل هوية المجتمع وشخصيته الحضارية, وتزداد أهمية دور التراث في التربية المجتمعية, عبر تكوينه للشخصية وصقلها بالتجارب عن طريق التقاليد والمعتقدات والعادات وما تتضمنه من قيم تحدد السلوكيات اللائقة وفنون المحاكاة والأمثال وغيرها من المعارف الشعبية, فالتراث لا يمكن الاستغناء عنه لا تعليمياً ولا تربوياً وحتى في التحديث والتنمية وفي السياق الاجتماعي لابد من دراسة مواقع عناصر التراث في الحياة اليومية, إذ تتعدد وظائفه وفقاً لتعدد عناصر التراث نفسه وتعدد استخداماتها في الحياة اليومية, فالأمثال الشعبية تساعد على اتخاذ القرار, والفوازير تشحذ الأذهان والأساطير الخرافية تضفي الشرعية على الممارسات السلوكية المختلفة, والأغاني الهجائية تنفس عن مشاعر العداء المكبوتة, ومنها ما يؤكد على بعض العادات أو المحرمات, كما تقدم بعض التفسيرات أو ممارسة الضغوط للالتزام بالسلوك التقليدي.
فالوظيفة التربوية للتراث مهمة جداً خاصة في المجتمع العربي, إذ يتم الاعتماد عليه في كل جوانب الحياة, في الإنتاج والاستهلاك, في الأفراح والأحزان, في المسكن والملبس والطعام.
كما وتؤثر العادات والمعتقدات والتقاليد بما تتضمنه من أعياد دينية وقومية ومناسبات, إذ تقوي أواصر المحبة بين أفراد المجتمع وتخلق شعوراً جمعياً يوالف بين القلوب, وتساهم المراسيم الاجتماعية في تدعيم العلاقات وتزويد الفرد بما يجب عليه سلوكه من حقوق وواجبات والتزامات, إضافة إلى التنشئة الاجتماعية التي ترتبط بعمليتي التثقيف والتوافق الاجتماعي فينشأ الطفل على احترام الكبار وطاعة الوالدين وإجلال العمل وغيرها من القيم الإيجابية التي يقرها المجتمع ويدمج أفراده من خلال هذا الإطار.
مرهون بقدرته على التكيف
أما الدكتور عبد القادر شرشار من جامعة وهران في الجزائر قال: لابد من البحث في قضية أثارت جدلاً حول إشكالية العلاقة ما بين الذاكرة الجماعية والمأثور الشعبي, ومن خلال لحظة حضارية يسيطر عليها هاجس الزمن المتمثل بألفية جديدة يطعن فيها البعد الآني في مركزية كل تفكير وكل مقاربة, وقد كشفت الدراسات الإنسانية المعاصرة عن عمق تأثير المأثور الشعبي في تشكيل المنتج الثقافي الكلي الذي ينتمي إليها, وهذا ما جذب الاهتمام إليه من كافة المؤسسات والهيئات والمنظمات الدولية والمحلية والعاملة في مجال التنمية الاجتماعية-الاقتصادية, حيث ينظر إليه بوصفه تعبيراً عن أسلوب متكامل للحياة يمارسها المجتمع من خلال المعارف والعادات والتقاليد والخبرات وغيرها, فينظر إليه على أنه كنز معرفي يشكل السلوك ويلونه ويساهم في توجيه أنماط العمل في مجتمعاتنا, وإن كنا لا نقول إن كل ما هو في التراث إيجابي, فإنه قد يحتوي على مظاهر وسلوكيات تتطلب التبديل, إذ يتوجب رؤية التراث باعتباره حركة دائمة من التفاعل مع النظم والمؤسسات, لذلك عليه إعادة صياغة نفسه من حين لآخر لمواكبة سرعة التغير واتجاهاته, حيث يقاس مدى صموده وتجاوبه مع تلبية حاجات الفرد والجماعة, التي تبني أسس الفعل الاجتماعي, فالتراث مرهون بقدرته على التكيف مع المتغيرات, كما أن التفاعل مع الإيجابي منه في عملية التنمية تفيد في تقوية عناصره الأساسية.
الأمثال ودورها في تغيير القيم
عن هذا الجانب تحدث الدكتور نوفل نوفل من جامعة دمشق فقال:
استنباط الأمثال كان نتيجة تجارب ومعايشة وخبرات عميقة لأجيال ماضية تتناقلها, وترتبط الأمثال الشعبية بالقيمة الاجتماعية, كما وتلعب دوراً وظيفياً متعدد الجوانب, فهي تشكل أحد أعظم الأساليب التربوية المتبعة في التعليم والتعلم وبما أن إلقاء الأمثال مضمونها الاحتذاء والاقتداء والتقليد, فإنها تعتبر محفزات وبمثابة تنشئة اجتماعية تعنى بدمج الفرد في الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه, ومن خلال الاستقراء للواقع والحياة الاجتماعية المعاشة, نلحظ أن المؤسسات العلمية والتربوية ليست قادرة على تحقيق تربية متكاملة وبالتالي تعتبر الأمثال عوامل مساعدة لارتباطها الوثيق بالقيم الاجتماعية, إذ تلك الأمثال لها أبعادها المختلفة من الأخلاقية إلى التعليمية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها, ودورها في تغيير القيم لا يستهان به, حيث في إلقائها الدعوة للسلوك والتمثل بقيمها, وأهميتها تكمن في كونها تقوم مقام النصيحة, من هنا يأتي اهتمام المربين والمفكرين بها لأنها تثير دوافع وانفعالات يصدر عنها سلوكيات, وهذا ما يقود إلى القول بأن اختيار الأمثال ونشرها في المجتمع هو عمل ذو مسؤولية عظيمة, إذ يتوجب الاختيار لها والانتقاء واللفظ, ويتصدر في هذا الإطار دور الأسرة باعتبار أن الطفل أكثر التصاقاً بأسرته فيقتدي بها وبأقوالها وأفعالها في معظم سلوكياته.