لكن لا شفاء من هذه التمردات التي اختزلها ذات يوم ملك مدينة اوروك منذ ان فتح التاريخ عينيه . . ربما البشر الذين من طراز جلجامش هم الذين حولوا التاريخ من طفل الى انسان بالغ النضج والرشد بحيث يتقن فن السير الى الامام والتلفت الى الوراء بآن معا ..
اضاءة مسرحية جديدة مميزة لهذه الاسطورة قدمها المركز الثقافي الفرنسي تحت رعاية وزارة الثقافة وبالتعاون مع دار الاسد للثقافة والفنون حيث قدم العرض في القاعة المتعددة الاستعمالات .
البعد التراجيدي قدم بدون مبالغة وبدون افتعال وهذا ما يمكن ان تقع فيه العروض الملحمية حيث الانفعال الزائد وهذا ما تجنبته تلقائية كاترين شوب مخرجة العمل الذي قدم تحت اكثر من عنوان ( قراءة- ارتجال- ورشة).
رغم تخمة ملحمة جلجامش الاصلية بالحكمة والدهشة والحزن المعلن والغضب الاخرس الذي لا ينتهي استطاع العمل تفادي ( ميلودراما ) مع استثمار فن جديد بالنسبة للمشاهد المحلي هو فن الكاتاكالي وهو مسرح راقص سائد في جنوب الهند يروي حكاية الالهة والبشر عبر الغناء.. الجسد.. الصوت الرقص والموسيقا الخام اي ما نسمعه في العرض هو قرع الطبول ودق الصنوج بحيث تمت المحافظة على روح الملحمة وزمنها..
ايقاع المشاهد كان يحدده تحول الاصوات المنفردة الى كورس جماعي بطريقة مدروسة رغم انها تبدو عفوية ووليدة اللحظة .. هذه ميزة مسرح الارتجال .
المفارقة اللغوية قدمت بطريقة اضفت المرح على اكثر من لقطة مشهدية حيث يتم الانتقال من السرد الحكائي الى القصيدة والى اللهجة العامية الدارجة بحيث يمكن لنا كمشاهدين ان نضحك بغتة ثم نعود بسهولة الى الجو الملحمي ..
الديكور اعتمد البساطة الصريحة لهذا شكل الممثلون مع مخرجتهم والحضور ما يشبه جمعة عائلية لا تفصل بيننا وبينهم غير الفوانيس العتيقة التي احاطت بمنصة العرض وحققت كما هائلا من رومانسية مفاجئة للحضور .. عززها التواصل المباشر بين الممثلين والمخرجة والمشاهدين اي غاب ذلك الحاجز التقليدي والمفترض بين منصة العرض وما حولها ..
الألبسة .. الاكسسوارات .. الوان تميزت ببساطة يمكن ان تتناسب مع اي عصر حيث استخدمت الاقمشة الخالية من الزركشات التي تحدد موضة ما او تعطي انطباعا اصاب الفخامة او عكسها ..جاءت متعاونة مع فكرة الورشة وهيأت صيغة الحنين الى البراءة..
المشاهد تنقلنا بين الابطال وتعطي كل شخصية حقها شخصيات امتلأت بالاحلام .. فمن مجلس الآلهة العاجي الذي يعقد بين آنو وانليك يتخلله كلمات مرحة ملفته الى تنهيدات عشتار الحارقة دون ان تبالي بالاعلان عن شهوتها الساطعة لجلجامش الذي يصدها بكلمات جريئة جارحة تصر فيما بعد عشتار على جعله يدفع ثمنها . ايضا انكيدو الخل الوفي الذي روضته مفاتن امرأة وجعلته يهجر رفاقه الحيوانات ويتحول الى آدمي متحضر على يديها ..
القدرية ميزة لا يمكن ان تخطيها في هذه الملحمة حيث كل شيء ملعوب مسبقا .. قدرية حددت الضحية مسبقا.. لتظل ازمة الوجود رابطة ازلية بين الانسان المعاصر والانسان العتيق لتعيش البشرية زيف اي ثقة بالايام القادمة.. ليلمع الامل في كل العتمة التي تمتد الى ما وراء النجوم . .ويتحالف مع كل الضوء الذي يموه الدرب بين لحظة الولادة وبين سكرات الموت حيث يغدو كل شيء صامتا..
من المهم ان نستعيد شخصية جلجامش حيث الطموح يرقص كلهب... حيث الاطمئنان المموه بالسؤال..
المخرجة الفرنسية كاترين شوب اخرجت العمل في اطار شراكة مع مسرح الشمس الذي تشرف عليه المسرحية العالمية و آريان موشكين .. وقد عملت كاترين شوب مع الممثلين لمدة ثلاثة اسابيع والذين كانوا قد شاركوا في ورشات عمل مسرح الشمس لمدة شهرين في باريس ..
الممثلون كانوا في العرض مغنين وحكواتيين وموسيقيين وراقصين في آن .. ورائعين ..