للأسف.. إن الكيانية السياسية للنخبة السلطوية التي احتلت مكان ودور وطبيعة وواجهة حركة التحرر الوطني في الواقع الفلسطيني, حرفت تلك المسيرة عن دروب التحرر, ودفعت الحركة الوطنية للتخلي عن ذاتها وعن أهدافها كحركة تحرر وطني قبل الوصول إلى أهدافها في إقامة دولتها الوطنية المستقلة, كأن أوسلو, كانت محطة لإضاعة الهدف, لا خطوة باتجاه هذا الهدف; ليبدأ السباق والتنازع داخل قوى السلطة عليها وعلى السيادة المنتقصة ورموزها الدولتية, وكأنها متحققة في كيان الحكم الذاتي الذي آلت إليه الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ,1967 فيما كان يجري التخلي عن قضية اللاجئين الذين يشكلون عنوان ورمز التحرر الوطني في الوضع الفلسطيني الخصوصي, حيث يشكل التخلي عنهم أو المساومة على حقوقهم التاريخية, في العودة إلى أراضيهم وديارهم, تخليا عن أهداف حركة التحرر الوطني كما هو متعارف عليها تاريخيا وموضوعيا.
من هنا تشكل سياسة فرض الوقائع على الأرض, في ظل أوسلو وتداعياته, إيغالا في تجاهل قضية اللاجئين, إلى الحد الذي جعل وزيرة خارجية اسرائيل تسيبي ليفني تتمنى أن يجري دفن قضية هؤلاء داخل حدود الدولة الفلسطينية, حتى قبل أن يجري تعيين مثل هذه الحدود أو تعيين محددات خاصة لملامح تلك الدولة .
يقينا ان تسوية غامضة لن تنتج سوى ملامح دولة غامضة, لا حدود سيادية لها, فالطرف الفلسطيني هو صاحب المصلحة الحقيقية في التقدم باتجاه حل سياسي حقيقي; عادل ومنصف, وهو الطرف المحشور بين شقي رحى الانقسام الوطني والجغرافي داخليا والضغوط الاقليمية والدولية. لكن السؤال المنطقي هنا: هل الظروف مؤاتية الآن لانتاج حل منصف? في الوقت الذي يمكن القول فيه وباطمئنان, إن حكومة أولمرت لا تمتلك مشروعا سياسيا تفاوضيا, وكل ما يعنيها راهنا هو إقامة نوع من علاقات عامة ليس إلا, تساهم في إبعاد شبح الإطاحة بها, إقالة أو استقالة, جراء التقرير النهائي للجنة فينوغراد بشأن إخفاقات حرب لبنان الثانية, المتوقع صدوره حتى نهاية العام.
لكن ما مدى امكانية القبول بحل سياسي معقول ومقبول دون أن يسد الأبواب مستقبلا أمام الأهداف النهائية الاستراتيجية لحركة التحرر الوطني الفلسطينية?
إن معالجة قضايا الحل )النهائي( في منظورها الجزئي المرحلي لا يبدو أن إمكانيتها قائمة أو واقعية الآن, عبر المؤتمر العتيد المقترح من جانب الولايات المتحدة, أو أي شكل من أشكلل اللقاءات الثنائية أو الجماعية في إطار إقليمي أو دولي, فالشروط القائمة ليست مواتية لانتاج حل )نهائي(, نظرا لطبيعة الوضع الاسرائيلي والفلسطيني, وحتى الإقليمي والدولي ليس في وارد تقديم المساعدة التي قد تمكن من الوصول الى مثل هذا الحل, على أن مؤتمرا بالمفهوم الإقليمي, وحتى لو كان دوليا, لا يستطيع فرض أي تسوية من أي نوع, ما دامت مرجعيتها المواقف الاميركية الاسرائيلية لا قرارات الشرعية الدولية, لا سيما أن الادارة الاميركية الراحلة بعد ما يقرب من عام من الآن, لن يكون في مقدورها ان تقدم أكثر مما قدمت إدارة الرئيس بيل كلينتون في نهاية عهدها قبل ما يقارب 8 سنوات من الآن.
إن الهروب من الواقع لا ينبغي أن يقود الى (عدم المقاومة) أو الى (عدم المفاوضة), وكلاهما على حد سواء لا يقود سوى الى الإضرار والتعمية تجاه الوضع الوطني, والحط من قدرته على مواجهة ما يفرضه الاسرائيلي وتحالفاته الدولية, والموضوعية اقليميا على الشعب الفلسطيني, فما دام المطلوب إنهاء الاحتلال وفق صيغ المرجعيات الدولية, فإن صيغة (الإطار المفاهيمي) التي يعمل عليها الآن عبر اللقاءات المتواصلة بين ايهود أولمرت والرئيس محمود عباس, أو عبر زيارة كونداليزا رايس قبل الأخيرة (18/9) والحديث عن وضعها مسودة هذا الإطار; تحضيرا للمؤتمر العتيد في تشرين الثاني القادم, هذه الصيغة أو أية صيغ أخرى قريبة منها لن تتعدى الصياغة العامة الفضفاضة, من دون الاقتراب من التفاصيل الدقيقة والجوهرية لشكل ومضمون التسوية القادمة, أو فحوى ومضمون الدولة المنوي إقامتها, هذا في حين يرى قطاع واسع من قوى حركة التحرر الوطني الفلسطينية أن القبول بأي شيء, إنما هو نوع من التفريط, مثل القبول بالجدار والمستوطنات الكبرى واستمرار احتلال القدس وتجاهل حق عودة اللاجئين. وهذه كلها )عقبات تفريطية(, تحول دون تفاوض منصف, وهي لا تنتج تسوية سياسية مقبولة من قبل إجماع وطني فلسطيني غير متوافر حاليا, كما لم يكن متوافرا من قبل, وقد لا يتوافر مستقبلا أيضا.
إن الدولة الفلسطينية من دون حل قضية اللاجئين وعودتهم الى ديارهم التاريخية فوق أرض وطنهم التاريخي, وخصوصا القسم المحتل منها عام ,1948 ليست حلا بالمطلق, أما عودتهم الى أرض فلسطين المحتلة عام 1967 حتى وإن تمت, فهي ليست حلا عادلا, بل هي من نوع الحلول التي تحكم بالموت على قضية اللاجئين. وعودتهم إلى الضفة الغربية أو قطاع غزة, إنما هي شهادة وفاة لذلك الحق; حق جميع اللاجئين الذين تغص بهم مخيمات ومدن وقرى الضفة وغزة, فإلى أين يعود هؤلاء إن لم يعودوا الى ديارهم الأصلية التي نزحوا منها, بفعل الاحتلال والتطهير العرقي الذي مارسته الحركة الصهيونية. وفي هذه الحالة لا يكون حق العودة قد انطبق عليهم, وإن كان سوف ينطبق على بعض العائدين من الشتات الخارجي الى مناطق الشتات الداخلي.
إن الحل العادل لقضية اللاجئين لا يكون الا بجمع الشتاتين فوق أرض الوطن الواحد, ليس في الضفة وغزة فحسب, بل في الجليل والمثلث والنقب, وهي أراض تتبع الدولة الفلسطينية المفترضة بحسب قرار التقسيم وقرارات الشرعية الدولية.
من هنا أهمية استعادة شعار الدولة الديموقراطية العلمانية كشعار متمم لشعار إنهاء الاحتلال, وكلاهما على مستوى الشعار والتربية يشكل مطلبا عادلا وواقعيا على المستوى الاستراتيجي بعيد المدى, يعتمد على الإرادة الكفاحية للشعب الفلسطيني, مجسدا في بنية حركة تحرر وطني, وليس في سلطة أيا كانت. لهذا فإن على فصائل منظمة التحرير ومؤسساتها كافة, إعادة التأكيد على إرادة التحرر الوطني, ووقف سياسة التراجعات المتواصلة والتمرحل المتواصل, وصولا الى وقف الحديث عن دولة بلا ملامح ولا حدود واضحة لها, لا سيما أن الجدار والاستيطان قد ابتلعا ما يقرب من 34 في المئة من أراضي الضفة الغربية, فأي حدود تبقى للرابع من حزيران سوى الحدود الوهمية للأمر الواقع الاستيطاني الاسرائيلي وجداره العنصري?
إن نخبة تكيف ذاتها وفق ما أريد ويراد لها ولقضية شعبها الوطنية, إقرارا بتحولات سلطوية تراد ترجمتها واقعيا وتاريخيا, وبما يتجاوز طبيعة القضية كمسألة تحرر وطني, وطبيعة الكفاح الشعبي كحق مشروع في مواجهة الاحتلال... إن نخبة كهذه لن تكون معنية في المستقبل كما هي في الحاضر, الا بالعمل على الاحتفاظ بالسلطة لنفسها على حساب الكفاح الوطني التحرري, وعلى حساب جمهور الشعب ولاجئيه الذين يشكلون جوهر ولب المسألة الوطنية والمشروع الوطني الفلسطيني.