تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الكتب المهداة.. مكانها ليس على الرصيف بل في متحف خاص

ثقافة
الأربعاء 27/8/2008
أتابع بشغف زاوية الأستاذ ديب علي حسن »على الرصيف«, شغف مقرون بشيء من الألم والحسرة. ولمن فاته الاهتمام بهذه الزاوية أقول: إنها فعل صياد ماهر.

يصطاد صاحبها كتباً مستعملة ذات ميزة خاصة تباع على الرصيف بأثمان بخسة. أما الميزة الخاصة التي تتشارك فيها هذه الكتب فإهداءاتها. إهداءات من مؤلفي الكتب الى أصدقائهم. في الاهداءات عواطفهم الشخصية. وفي الأرجح أن من تهدى لهم هذه الكتب إنما هم من صنو المؤلفين, زملاء لهم في مهنة الحرف.‏

ثم ماذا? مكتبة أي شخص محكوم عليها بأن تتضخم محتوياتها لا أن تنقص. إذن, فالمكتبات قد تظل تتضخم حتى يضيق بها المكان. بعد »إذن« هذه تأتي »إذن« ثانية. لا بد من وضع حد للتضخم. كيف يكون ذلك? إحدى الوسائل بيع كتب يعتبر أن من الممكن الاستغناء عنها. والمشتري تاجر كتب قديمة. وقد لا يستغرب أن يكون أيضاً ذواقة كتب.‏

زاوية على الرصيف تنتقي من الكتب القديمة المعروضة بأثمان بخسة, تنتقي منها ما خطه المؤلف بقلمه إهداء الى صديق له, فرأى هذاالصديق, بعد فترة تطول أو تقصر, إن الاحتفاظ بالكتاب الهدية أقل قيمة له من قيمة ما يمكن أن يتم دفعه له من قبل تاجر الكتب.‏

يأخذ صاحب الزاوية الكتاب المقتنص فيعرّف به, ويعرف بصاحبه وبالمهدى إليه, أي صاحب صاحبه, وبمحتوياته, كل ذلك بعد أن يصور الاهداء بخط يد المؤلف وينضده.‏

مادة مغرية لي لا ريب. مغرية لغيري كما أظن. شغفت بها, إلا أنها عندي تأتي مقترنة بشيء من الألم والحسرة. لماذا?‏

(2)‏

مبعث الألم والحسرة ذلك التذكير للقارىء بأن المهدى إليه ضاقت به ظروفه. ضاق به ظرف المكان في بيته أو مكتبه, ولو لم يضق لاحتفظ بما أهدي إليه. وظرف آخر ضاق به: وضعه المالي, فرأى مناسباً أن يترجم الكتب المهداة الى مال قد يفرج -ولو قليلاً- من ضنك. ولو لم يكن ثمة ضنك لاختار المهدى أن يمنح ما لديه من كتب مهداة أو غير مهداة الى مكتبة عامة أو الى صديق أو معجب أو جار أو قريب أو نسيب أوحتى الى عابر سبيل.‏

ومبعث الألم والحسرة ذلك الاهدار لعواطف صاحب الكتاب إذ يستطيع أي مشتر للكتاب الاطلاع على رسالة خاصة أراد صاحبها أن يتودد من خلالها الى المهدى إليه, وقد يسأل ذلك المهدي في رسالته الخاصة مهداة التكرم عليه بقضاء حاجة. قد يكون المهدى من أصحاب السلطان, وقد يكون الاهداء أشبه بالاستجداء. والله أعلم صحيح أن معظم الاهداءات عادية تكاد تكون رتيبة في كلماتها, إلا أن في بعضها طرافات لا تقدر بثمن. وفي مكتبتي مثال على ذلك ضمني ذات يوم مجلس مع واحد من أكبر أدبائنا الذين انتقلوا الى دار الحق. أحب إعطائي كتيباً, ليس من تأليفه, يخوض في أمور لا يخاض بها في محيط تقاليدنا العائلية. قلت: أخجل من أخذه إلا إذا وشحته بإهداء بقلمك يزيل عنه سمته ويمنحه بعداً أدبياً. فعلاً إهداء غير عادي وأرجو ألا أمكن أحداً من أن يجده مرمياً على الرصيف. ثمة في الاهداء خصوصية تميز العلاقة بين طرفيه. إهدار تلك الخصوصية قد يكون مبعث ألم وحسرة. وقد شهدت حالات يضع فيها المهدى كتباً أمام صديق له, فيتعفف الصديق عن قراءة الاهداء, إلا إذا طلب المهدى إليه من صديقه أن يقرأه.‏

(3)‏

هل بالغت في تبيان ما يقترن بشغف الاطلاع على الاهداءات المقتنصة على الرصيف, هل بالغت في تبيان اقترانها بمشاعر الألم والحسرة? في الأرجح أنني لم أبالغ. وأرحب بكل من يود أن يساهم في إيضاح مشاعره إزاء ما يقوم به الصديق الأستاذ ديب علي حسن.‏

ذات يوم زرت القسم الثقافي في الجريدة وتحادثت مع صاحب الزاوية في منعكسات ما يفعل. بحت (من باح يبوح) له بأمر عائلي خاص مؤداه أنني سألت مَن بعدي, أفراد أسرتي, ألا تباع الكتب المهداة لي إلا إذا اقتطع منها الاهداء أو طمس. وإذ استعد الآن للاستغناء عن وجبة جديدة مما لدي من كتب فإنني سوف أحرص على ألا تشمل كتاباً اغتنى بإهداء, احتراماً لطرفيه: المهدي, والمهدَى. في شريعتي المعتمدة: أهدي الكتاب المهدَى الى مهتم بموضوعه, وأضيف إليه إهداء جديداً حتى لا يظن أحد أن مالكه الجديد اصطاده من الرصيف.‏

لكن الأمر قد يطرح على نحو آخر. هل لهذه الكتب المهداة قيمة إضافية في سوق الثقافة? لو وقعنا على كتاب أهداه شخص كعبد الرحمن الكواكبي أو كعبد الحميد الزهراوي الى صديق له. أو الى صاحب سلطان, وتضمن ذلك الاهداء أموراً ذات قيمة خاصة, فكيف ينبغي أن يتم التعامل مع الاهداء?‏

(4)‏

أحب المتنبي. وأنفتح على مبدأ الاستفادة من الأخبر:‏

خبر الناس قبلنا ذا الزمانا وعناهم من أمره ما عنانا‏

أتساءل: ماذا يفعلون في غير بلادنا, بل ماذا كان يفعل أجدادنا بكتب يودون -هم أو ورثتهم- أن يتخلصوا منها?‏

وقعت, صدفة, على إجابة من إجابات. كنت أطالع في كتاب قيم جاد به قلم الدكتورة رغداء مارديني -وربما جادت به نقراتها على حاسوبها- فقرأت ما يلي:‏

»جرت مناظرة بين يدي ملك المغرب المنصور كانت بين الفقيه أبي الوليد ابن رشد والرئيس أبي بكر بن زهر فقال ابن رشد لابن زهر في تفضيل قرطبة: ما أدري ما تقول, غير أنه إذا مات عالم في إشبيلية فأريد بيع كتبه حملت الى قرطبة حتى تباع فيها, وإن مات مطرب بقرطبة فأريد بيع آلاته حملت الى إشبيليه«.‏

(ص/141/ من كتاب: المناظرات الخيالية في أدب المشرق والمغرب والأندلس. دمشق, دار الفكر, 2008, 566 ص والمقتطف مأخوذ من كتاب المقري, نفح الطيب 1/154).‏

وعليّ أن أختم, فقد كررت وأطلت حتى أمللت. بماذا أوصي?‏

قد تود جهة ما في سورية, حكومية أو خاصة, أن تعلن اهتمامها بأمر الحصول على الكتب المهداة التي يود أصحابها التخلص منها. قد تود أن تضعها بتصرف الدارسين. قد يكون في إهداء منها ما يذاع سراً أو يكشف لغزاً أو يوضح مسألة. وقد لا يكون فيها شيء من ذلك ولكن العناية بها تعبر عن احترامنا لمؤلفي الكتب.‏

وقد تكون هذه الجهة وزارة الثقافة, أو أي من متفرعاتها: مكتبة الأسد, أو مكتبات المراكز الثقافية, أو قد تكون الجهة اتحاد الكتاب العرب. أو, ولم لا?‏

قد تكون هيئة خاصة غير ربحية أو ربحية ترتب الكتب في رفوف ولا ترميها على الرصيف.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية