شربنا منه أولى قطرات دخلت أفواهنا بوجودنا تحت شمسه المختبئة خلف عجاجه باستحياء معتذرة عند انجلائه عن كدر قد يصيب أهله منه.. قطرات كانت النسغ الأول في برعمة أيام شبابه المتعاقب الأجيال، ما قبل زنوبيا التي وصلت ضفافه يوماً وصولاً إلى أيامه الحاضرة.
وأهلي أهل الدير مضرب الأمثال في الشهامة والكرامة الذين قيل فيهم (للسيف والضيف ولغدرات الزمان) من يحتمي بحماهم يجار ولو غار، ومن يأكل قِراهم لا ينساهم لكثرة الحب في ملح الإدام..
تاريخ كتب دائماً بأحرف من نور، وأول علم رفع حتى في وجود الفرنسيين على أرض سورية كان في المحافظة التي عقدت قرانها مع الاستقلال - ودحر العدو من أرضها في منطقة البوكمال - رفعه النقيب الموصللي.. الأرض التي لفظت الاحتلال والغزاة.
الشعب الذي التصق بالأرض وأحبها.. وخرج قادة وطنيين وتربويين ورجالات فكر وعلم وأدب وفن وسياسة.
بحر الحب الذي غمر سيادة الرئيس بشار الأسد عند زيارته الأخيرة لدير الزور التي زحفت عن بكرة أبيها للقائه في ساحة السيد الرئيس منظر لا يمحي من الذاكرة..
هل نحن اليوم في كابوس جاءنا بليلة عتمة ثقيلة غفونا فيها ونحن جلوس؟!
بيادر القمح التي تملأ رائحة عطرها في أيام الحصاد والدراس صدورنا، اشتقناها وحقول القطن التي تصبغ الأرض ببياضها مثل قلوب أهل فرات الخلود... اشتقناك يا ديرنا..
حتى رائحة توالف الشوندر التي كانت تزكم أنوفنا من معمل السكر في موسمه وعداً لن نتضايق بعد اليوم..
اشتقنا لياليك الرطبة وضياء فوهات النفط في اشتعالها وإن كانت زرعت بعض المرض في أجساد غضة دون شيء آخر؟!
اشتقنا رفاة أبنائنا وزيارة (مجناتنا).. ومناجاة الأرواح الطاهرة التي غادرتنا قرباناً لأجلك.. اشتقنا لعجاجك ومائك وتربك وشمسك.. هل يمكن أن تبقى قلوبنا غلفاً فنرفع السلاح في وجه بعضنا البعض، ونحن الذين كتب تاريخ أجدادنا فصولاً تحكيها شهرزاد في ألف ليلة وليلة، ولا تكفيها الليالي عن شيمهم وأخلاقهم ومقارعتهم الأعداء (أهل الريش - والعثمانيين - والفرنسيين - والسنغال) جيش المرتزقة .. في ذلك الزمان.
أجدادنا الذين أجاروا الأرمن في مذبحة الأتراك، اقتسموا معهم الزمان والمكان وحفظوا أعراضهم فأصبح لكل بيت خال من الأرمن بشرع الله.
أين نحن منك يا ديرنا.. إننا الجاحدون.. العاقون؟
هل غيبت عقولنا إلى هذا الحد لم نعرف يوماً في تاريخك إلا أقل عدد يمكن أن يغدر بك وبأهلك وأحرارك مما يكتبه تاريخ الشعوب عن العملاء؟
هل نسينا الأمانة.. هل فرطنا في الوديعة.. سؤال برسمنا جميعاً؟ كل من رشف أول قطرة ماء في حياته من فراتك الخالد وبثه همومه ورتل العتابا في فرحه وحزنه.. حتى آخر شهيد على أرضك في أيام الزمان الغادر هذه..
هل يمكن أن يغترب الحب من قلوبنا فينحني نخيل الفرات باستحياء مما تراه في عليائها على ذات الأرض التي تحتضن جذرها وشهداءها الخالدين... هل يمكن أن يذهب الإجلال والإكبار واحترام كلمة الكبير شيخاً بعمتّه أو عباءته أو بزته. ونحن من يضرب بنا المثل في الإنسان القدوة واحترام الرأي في حكمة الكبار...
ليس من ثقافتنا والله. ولا تربيتنا ولا سلوكنا ولا أدبيات حياتنا... ما نحن فيه اليوم، من أين جاء كل هذا الكره والبغضاء والحقد على بعضنا...
ياديرنا... أغلى ما نملك أنت.. فإننا نرى سوريتنا وهويتنا وعنفواننا وذاتنا في كل ذرة تراب وقطرة ماء فيك... أحببنا الدنيا من فرط حبنا فيك، فلم نكره جغرافيا ولا تاريخاً ولابشراً في الدنيا... زرعوا بيننا الحسد.. لكننا بالحب تجاوزناه وشمخنا بحماية ظهورنا وغادرنا الحسد إلى المنافسة الشريفة في خدمة الوطن.
هل يمكن أن يتحول كل هذا الحب الغامر إلى كره لذواتنا وبعضنا، فنرفع السلاح ونقتل بدم بارد.. نخرب مرافقنا ونحرق مقدرات وطننا بشرر جاءنا من بعيد، مجبولاً بعفن شرهم وحقدهم علينا ونحن في غفلة تطحننا فيها رحى الغدر والخنوع التي تحقن السلاح والمرتزقة والشعارات الزائفة والدولار المغموس بدم أبنائنا. حتى أصبحت الحدائق العامة وجنائن البيوت مدافن لفلذات الأكباد.. ونحن غير كل بني البشر نكني مدافننا (بالمحنة) من الجنة لأننا نثق أن أرضنا قطعة من الجنة وأن الفرات واحد من أنهارنا.
أما من لحظة تتدخل فيها الحكمة والعارفون والكبار والشيوخ والمشايخ والعقلاء، لإلقاء السلاح والحفاظ على ما تبقى بلا تخريب. ليعود المغرّبون الذين تسلل البرد إلى أجسادهم الطفولية من بين حنايا المدارس والحواضن التي ضمتهم... اشتاق الجميع لدفء شمسك.. اشتقناك.. ياديرنا الغالي...