والوقائع التي لا تخطئ والتجارب التي لا تغادر الحياة أبداً, ولطالما كان هذا الهروب من السياسة إلى الحدث التاريخي خياراً من أخصب الخيارات عند الأمم, فكيف إذا كانت خيارات هذه الأمة مفعمة بالأحداث الكبرى, مبثوثة مزروعة مثل أوابد لا يعدو عليها الزمان ولا تغير في أحوالها نظرة شائن أو لوثة حاقد أو فساد مستهتر, ولا نستحدث في التاريخ الروايات ولا نتعمد وهم القصص وسرد الحكايات فكل شيء ماثل أمامنا يطاردنا بعنفوانه ونلوذ منه تحت أكناف الستار الرقيق ثم نكتشف أن التاريخ بوقائعه يحيط بنا من كل صوب.
وظرف يفتح علينا ومن خلالنا الأفق ولا يرتج باباً ولا ينهي حياتنا عند حدوثه, وهكذا فالوقائع التاريخية لحظات مشرقة نفيء إليها في زمن الردة والهوان ثم نعود منها وقد أدركنا عمق المأساة التي أخذنا أنفسنا إليها بتواتر مريب وإيقاع متكرر حتى خسرنا أو كدنا نخسر الاثنين معاً السياسة ووقائع التاريخ, وهنا تبدو أهمية هذا الانكفاء عن السياسة المحرجة إلى الحدث التاريخي الذي يسعفنا حين تجدب الحياة ويدفعنا حين يتعامل الآخرون معنا مثل قطيع من السوائم, وها نحن في حاضنة الحدث على مقربة منا كان السابع من نيسان من العام 1947 وقد شهد ولادة حركة البعث العربي, وفي ذات السياق كان السابع عشر من نيسان من العام 1946 موعد النصر على الأجنبي وخروج المحتل من أرض الوطن وبدء تاريخ استقلال سورية.
والوقائع كثيرة تترى لكني أتخير منها هذين الحدثين ميلاد البعث وميلاد الاستقلال, وليست المسألة مجرد ذكريات نطل منها على أفعال ووقائع صاغها الآباء والأجداد على هيئة بطولات أساسها متجذر في امتدادات ثلاثة, امتداد الحق والحقيقة, وامتداد إرادة الإنسان في التمرد على الظلم والهوان وامتداد انبعاث الإنسان العربي بالآخر العربي, بالمجموع العربي, جذر هو الذي أسس للحكاية برمتها ورفع النظرة للأحداث من منسوب الذكريات إلى مستوى الذاكرة الحية وأعلم أن الصراع سيبقى محتدماً بين موقف يتغنى وموقف يتبنى, لكن الأكيد هو أن قدر العربي في غربته الراهنة أن يصارع حتى آخر نفس وأن يبذل حتى آخر نقطة من دمه لتبقى حياته قائمة وليبقى حضوره على خط الحياة موصولاً بما كان متحركاً, بما هو كائن, ممتداً بلا تردد نحو ما يجب أن يكون والبعث ليس مجرد إنجاز ولا هو حالة إعجاز وإنما تطلق الحياة العربية إشراقاتها في اللحظة الصعبة, وعلى هذا النحو جاءت ولادة البعث العربي الاشتراكي, ولادة وجدت لتنمو لا لكي تضمر أو تجهض عند لحظة الاستفاقة على الحياة الكريمة, لذا رأينا ولادة البعث تكبر بالكبار وتجف مع الصغار,
والبعث مبادئ وقيم أساسها رسالة الأمة ووحدتها دور الإنسان وقيمته, عدل ومساواة, بحث عن اللائق بكرامة الإنسان, تأمين لديمومة الحق ونهج لتجميع الذين تفرقت بهم السبل ثم دخلوا في حرب داحس والغبراء حيث راقت اللعبة لأصحاب النفوس الهشة إلى أن قيض الله لهذه الأمة بعضاً من رموزها فعادت الحياة للمبدأ وصاغ المبدأ تجلياته في حرب مشرفة وبناء مشرق وخيار عادل, والبعث ولد ليبقى, إنه يشبه ولادة الإنسان, قل ماشئت عن تقلبات أحواله لكنك أعجز من أن تنكر الأبوة والبنوة, كلمات أطلقها في وجه العابرين الذين لم يدركوا أن البعث هو معادل الحياة في صبوتها الأصفى وصيغتها الأفعل وحدودها المعاصرة.
ومن البعث إلى الجلاء, والجلاء هو الوطن وهو الإنسان والبعث بعض من الجلاء, بعض من الإنسان, بعض من فلسطين وبعض من تشرين المجيد وما زال بعضاً من واقع قائم قاتم, لكن المهم أن البعض المكثف ما زال حياً والجلاء هو لحظة الاستقلال وهو مساحة الوطن بكامله وما تغير في الجلاء معلم أو جانب, لم تنته الحاجة للجلاء فما زالت أجزاء غالية من الوطن أسيرة أحقر محتل غازٍ في التاريخ, والاستقلال غير ناجز ما دام جزء من الأرض أسيراً مخطوفاً, والجلاء معين لا ينضب من الدروس, وما أشبه اليوم بالبارحة, من أجل الوطن قاتل الشرفاء وعند لحظة النصر عادوا إلى مواقعهم عمالاً وفلاحين منتجين وكادحين طلبة ومعلمين,
كانوا يعتقدون أن غيرهم سوف يكمل المسيرة ويعطي للوطن لحظة الأمان, خاب ظنهم في البعض وصدق ظنهم في الكثيرين وها هي عناوين الاستقلال تندفع فينا وتطاردنا فكيف تكون لنا سياسة ونحن مخترقون ونحن منكمشون أمام أعداء وجودنا وتاريخنا, انظروا إلى اللوحة في العراق وفلسطين ولبنان والجولان, في الصومال والسودان, تمعنوا في عمق اللوحة لتروا أن السياسة ليست فن الكلام والممكن والهروب من استحقاق الخسارة, إنها تاريخ في الحياة وحياة في التاريخ وذلك ما تتقنه دمشق في كل أحوالها.