ودراجته النارية والمفاجآت التي اعترضته في قارات العالم الأربع و هو يسير بها.
لكنني وجدت نفسي أمام عشرات التجارب والأحداث والذكريات التي تعج بالحب والطموح والغيرة .
وهو ابن دمشق الحبيبة الذي شهد منذ أن كان طفلاً في السابعة من عمره كيف ضرب الفرنسيون المدينة بالقنابل عام 1925 وكان ينظر إلى دخان الحرائق ولون السماء الأحمر, الملون بلون دم الشهداء من صحن منزلهم الكائن في منطقة البركة (القنوات).
من هنا بدأنا الحوار ومن هنا استمعنا إليه قائلاً: أنا من مواليد دمشق عام 1918 نشأت في دار واسعة تضم بين جنباتها 32 فرداً ( جدي وأبي وأعمامي وعمتي والنساء والأولاد) وكان جدي من كبار تجار الحبوب المعروفين بالبر وأعمال الخير.
وكنا نعيش في جو عائلي يسوده ا لنظام والطاعة والاحترام لسيد الدار الذي يرتب الأمور ويسوسها, وكان لدينا مضافة كبيرة, فيها غرف للنوم واستقبال المسافرين من الضيوف فكنا نحضر هذه المجالس ونستمع إلى عشرات القصص والحكايا, وكانت لي فرس اهتم بها وأرعاها, إذ كانت لدينا (بايكة) للأحصنة أمام الدار, فكان المجال أمامي كبيراً لركوب الخيل ومايرافقها من رياضة قتالية.
الأيام الصعبة
صحوت على الأيام الصعبة والقاسية عام 1936 حينما بدأنا نعرف معنى القتال ضد الاحتلال الفرنسي, ولماذا ندافع عن هذا الوطن, حيث اشتركت مع رفاقي برمي الحجارة على جنود المستعمر, وهم يحملون الرماح الطويلة ويوجهونها إلى صدورنا وفي تلك الأيام عرفنا الجنود السود وسواطيرهم ونحن شباب عزل, نشارك بالمظاهرات والاضرابات.
وفي إحدى المرات حشرت مع المتظاهرين في الجامع الأموي, وأخذ جنود الاحتلال يطلقون علينا الرصاص, فقتلوا العديد منا.
مرحلة طويلة وأحداث كثيرة, ضرب وقتل واعتقل فيها أكثر رجال دمشق وشبابها, وباختصار أتحدث عن ذلك.
ففي عام 1937 بدأنا نستخدم المفرقعات النارية, التي تحدث دوياً هائلاً ودخاناً, نحشوها بالحصى والمواد المتفجرة ونربطها بقصاصات الأثواب البالية, وأحياناً نضيف إليها الشفرات والمسامير, ونرميها على المراكز العسكرية والسفارات المتواطئة, وكل مكان تصل إليه أيدينا, وكانت تصل المفرقعات إلى داري عن طريق الدكتور ( بشير القضماني) ثم أقوم بتوزيعها على الشباب, بعد التنكر بأزياء مختلفة, إذ كنت حينها طالباً وسيما, لايعطي مظهري الأنيق بأنني أقوم بهذه الأفعال.
سجن القلعة
في عام 1939 خرجت من داري, في يوم لم أعد أتذكر تاريخه, أحمل كيس ورق بداخله مفرقعة كبيرة تقبع تحت المكسرات وبخطوات هادئة اقتربت من دار الشرطة الواقعة إلى جانب السرايا, وهي محمية جيداً, فاتجهت نحو الطرف الثاني من الشارع ,والنهر يفصل بيننا وعن مسافة تقدر ب 50 متراً, انتظرت حتى رأيت الضابط الفرنسي (كوبتو) يصل إلى المدخل العام, فألقيت عليه المفرقعة ويبدو أن أحدهم رآني من الطابق الأعلى, ولهذا بدؤوا يسارعون للقبض عليّ, فلحقوا بي إلى ساحة المرجة, ثم منطقة البحصة, ولم يكن أمامي سوى فندق الأندلس, فصعدت سلمه الطويل, لكن باب السطح كان مغلقاً ولم استطع الهرب.
ساقوني مكبلاً إلى الضابط (كويتو) الذي أمر بأخذي إلى الأقبية وتعذيبي وهناك ساعدني الحارس الذي وضع لمراقبتي وهو( الملحن نجاتي قصاب حسن) هذا ماعرفته فيما بعد.
ومن سجن النظارة إلى سجن القلعة بحكم 18 شهراً وهناك تعرفت على عشرات الطلاب المعتقلين الذين حكموا ظلماً, ولكن لم تمضِ عدة أشهر حتى أطلقوا سراحنا جميعاً بعد أن تولى خالد العظم رئاسة الوزراء.
رحلتي الأولى
على الدراجة الهوائية
في سنة 1946 نعمنا بالاستقلال, واستلمت الحكومة الوطنية بدلاً من الفرنسيين, ولم تمضِ عدة أشهر حتى بدأت المؤامرات والانقلابات ودخلت البلاد في دوامة الأهواء الشخصية, ولهذا قررت المغادرة والمغامرة في دنيا الله الواسعة, ففي عام 1951 قررت التوجه نحو فرنسا ولم تكن المرة الأولى التي انطلقت فيها برحلة شاقة.
فقد قمت مع صديقي الاستاذ فؤاد حبش بجولة في أنحاء سورية عام 1941 على الدراجة الهوائية.
ثم قمنا برحلة ثانية من دمشق إلى أعلى نقطة في جبال لبنان ( القرنة السوداء) في تلك الرحلة اضطرتنا الظروف لحمل الدراجات على أكتافنا بسبب الثلوج الكثيفة, وأمضينا ساعات مخيفة وصعبة إلى أن وصلنا القمة, ثم هبطنا إلى جبال الأرز حتى طرابلس وبيروت, ثم العودة إلى دمشق.
ثم أعدت الرحلة مع مجموعة من الرفاق مشياً على الأقدام, وكنت أروض نفسي على القيام برحلات أوسع وأعظم, والذي ساعدنا في التغلب على المخاطر وعدم الضياع, أنني كنت كشافاً وامتلك الخبرة بالمبادىء الكشفية التي أخذتها عن القائد الكشفي علي بك الدندش بعد أن قمت معه بعدة رحلات.
كانت نفسي تهفو للرحلات وكنت مستعداً من الناحية الجسدية والنفسية فتوجهت نحو فرنسا بحثاً عن العمل, وكانت مغامرة صعبة, مجهولة المخاطر, وهناك أتقنت اللغة الفرنسية, والتقيت بالعديد من أبناء هذا الوطن وهم في سعيهم للدراسة, وقمت بجولات إلى المدن الفرنسية المختلفة وكان أهم عمل قمت به في فرنسا هو انضمامي إلى نادي كرة القدم( CAP باريس) كمحترف من الدرجة الثانية, ورغم كل مامررت به من أحداث, بقيت ذاك الشاب العربي المؤمن بمثله العليا وكأنني لم أغادر مدينة دمشق.
إلى ألمانيا
بعد مضي أكثر من سنة غادرت فرنسا متوجهاً إلى ألمانيا ومعي بطاقة النادي كمحترف, ورسالة من دمشق من شركة وكلاء سيارات المرسيدس فساعدني ذلك في الحصول على عمل وخصوصاً أنني كنت من خريجي مدرسة الصنائع في حلب.
وبقيت فترة طويلة أعمل بكل همة ونشاط في شركة » المرسيدس بنز) وألعب مع أشهر فرق »شتوتغارت) وهناك حصلت على المنزل والعمل وأحببت شتاء ألمانيا لأنها خلقت مني متزلجاً مرموقاً, حتى أنني مارست الطيران الشراعي لعدة ساعات متقطعة, فكنت أظن أنني لن أعود إلى الوطن إلى أن حصلت على شهادة الاختصاص بالهندسة الميكانيكية, وتم تعييني خبيراً لشركة المرسيدس في دمشق, فعدت إلى البلاد سنة .1954
ومضت الأيام, فتركت شركة الآليات لانتقل إلى الكويت عام 1955 كمدرب لكرة القدم والسباحة في الجيش الكويتي, لكني عدت إلى دمشق بعد العدوان الثلاثي على مصر العربية.
ومن هنا أعددت العدة وقررت الطواف حول العالم على دراجة نارية للتعريف بسورية ووضعت علم بلادي في مقدمة الدراجة.
وكنت ذلك الإنسان المتفرغ والعارف بقيادة الدراجة للابتعاد عن المطبات والمشكلات المميتة والمؤذية.
رحلة السنوات السبع
انطلقت مصمماً على ألا ألتفت إلى الوراء حتى أحقق هدفي, وكنت خلال هذه المرحلة أكتب وأراسل الصحف أزودها بأخبار الدنيا المترامية الأطراف مضت سبع سنوات قطعت خلالها أكثر من 153 ألف كليو متر, وزرت 95 دولة, ومررت بأكثر من خمسة آلاف مدينة وقرية, في القارات الأربع , وسجلت الملاحظات وكل ما أصادفه من عادات وتقاليد وثقافات لهذه المدن والدول والشعوب, والحمد لله كنت مقبولاً من الشعوب وكانوا ينظرون إليّ بدهشة كبيرة كيف وصلت إليهم على دراجة نارية أقطع الغابات والجبال والطرق الوعرة.
وكنت أحاول قدر المستطاع وأينما حللت إعطاء معلومات وأفكار عن سورية وتاريخها وحضارتها وأهلها وآثارها, وكنت في بعض الأحيان أقدم المحاضرات بلغتهم أو باللغة العربية بالتعاون مع المؤسسات الوطنية والأندية العربية الموجودة في تلك البلدان.
ساعدني على ذلك وعلى فهم الشعوب أينما حللت امتلاكي ومعرفتي باللغة الفرنسية والألمانية والإسبانية.
الحادث المؤلم
صادفت حوادث كثيرة, ودخلت المستشفيات العالمية ولكنها كانت عبارة عن تطبيب وأمور بسيطة لم تمنعني من متابعة الرحلة, ولكن بعد أن مضى سبع سنوات على ترحالي, وفي إفريقيا شاءت الأقدار أن اصطدم بسيارة جامحة وأقع تحت عجلاتها, تمزقت أوصالي وتكسرت أطرافي وفي أنحاء جسدي ورضيت بالقضاء والقدر...
وبعد الحادث انتقلت إلى مستشفيات أوروبا, ثم عدت للاستقرار بدمشق وعكفت على كتابة مذكراتي عن الرحلة وكانت الصفحات مملوءة بأخبار هذه الدنيا, وكانت كسوري وجراحي لم تلتئم بعد, ولكني لم استسلم لليأس أبداً, وفي دمشق بدأت من الصفر في التمارين الرياضية والاسترخاء في الأحواض المائية وتحريك الساقين وتحسنت حالتي وعادت إليّ أكثر القوى التي فقدتها.
وفي هذه الفترة أنجزت كتابي الأول (حول العالم).
السجل الذهبي
ضاق صدري من الانتظار وانطلقت من جديد لرؤية العالم ولكن هذه المرة في السيارات والبواخر البحرية والقطارات وبعد عودتي وفي عام 1975 أصدرت كتابي الثاني » حول العالم) وبعد سنتين أصدرت كتاب » السجل الذهبي) الذي فيه تواقيع الملوك والرؤساء والقناصل والسفراء مع الخرائط التفصيلية لخط سير رحلتي.
و الحقيقة أنني ألفت وأنتجت خلال حياتي 15 كتاباً فيها الكثير من الأحداث وكشف الستار عما خفي من أسرار.
بعد مضي نصف قرن
أخيراً أشكر جريدتكم لأنها المرة الأولى التي تسألني جريدة حكومية سورية عن مسيرتي وعن أوضاعي, والواقع أنني الآن بوضع صحي سيىء واحتاج إلى المستشفى لمعالجة أوجاعي, وأنا ابن التسعين من عمري, وكل المغريات في الدنيا لم تعد تغريني, بعد أن كرمت في بلاد العالم ورفعت علم سورية فوق الرؤوس احتراماً, ومافعلته هو جزء من واجبي أتمنى أن يقتدي به شباب هذا الوطن.
وآمل أن ينظر إلى وضعي الصحي باهتمام.