تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


ماركيز في قصصه القصيرة: فيلسوف... ويشبه كافكا

كتب
الأربعاء 16/4/2008
أحمد علي هلال

أخيراً ظهرت القصص القصيرة الكاملة, للروائي البرازيلي غبرييل غارسيا ماركيز, في طبعتها العربية اللافتة, في مستوى ترجمتها, وتنسيقها, حتى لتبدو كوحدات سردية منفصلة أو متصلة, عالماً مكتفياً..

ساحراً وسرّياً ودائم الانكشاف بصورها وإيقاعاتها الحسّية, أو (الميتافيزيقية) وتشكيلها الصوتي أو اللغوي أو الجمالي. كان ماركيز قد كتب قصصه في عقود مضت وبأزمان -منفصلة ومتصلة- أيضاً, بدءاً من الأربعينيات وحتى منتصف السبعينيات, وإذا كان من البديهي القول إن (منظور الزمن) هو خلفية محكمة لتلك القصص, بصرف النظر عن إلحاح-ماركيز- على خصوصية ما كتبه وربما استقلاله النسبي عن هاجسه الروائي الأساسي.‏

فالقصص في سياقها التاريخي, لا شرطها الأخلاقي فحسب, تحاكي ما ذهب إليه ناقد من أمثال (مايكل دود) في مجلة لندن ديفيو اوف بوكس من أن ماركيز قد يكون عثر على حكايته, فرواها ووقعها باسمه, بدلاً من أن يكون ابتدعها.‏

وفي تلك المسافة المحتملة, أي بين الواقع والمتخيل, ما يغري بالانتباه إلى أطياف العوالم الواقعية السحرية لدى الروائي الكبير, والأهم تلك الذاكرة المضادة في نصوصه القصصية, وبوضوح ثيماتها.. ولا سيما الموت ومنها ولوجه لفضاءات ملونة بالجمال والسعادة والأحلام. فالموت في تعالقه مع الجسد فحسب بوصفه الفضاء الأول, حيث الرغبات في تصعيدها الدرامي, وفي حركيتها الحياتية واللغوية,إذ لا حياد مع الجسد بوصفه كوناً يختزن رعشة الحياة, فثمة رؤيا تعيد التوازن بين الموت والحياة, ولعلها تضع الحياة ذاتها في معادلة الزمن -الموت- التفسخ. بطابعها الوجودي بين الأبدية والفناء, وبالتشظي المكاني والزماني, الذي يجيده ماركيز, ليجعل من الجسد داّلاً حكائياً وسردياً, وذلك بتأسيسه من جديد, ولكن (بسحر الغرائز) حسب تعبير -ماركيز.‏

يكتب ماركيز - إذن- عن حقيقة ذلك التناقض الناتج عن فعل التأمل وفي (موت حي, أو موت فعلي وحقيقي, ليعطي نكهة مغايرة لمغامرة الكتابة ذاتها, في محكي قصصه المتوزعة على مساحات سردية ووصفية ومتداخلة الهواجس والرؤيا: (عينا كلب أزرق) و (جنازة الأم الكبيرة, القصة الحزينة التي لا تصدق لارينديرا البريئة وجدتها القاسية, اثنتا عشرة قصة قصيرة مهاجرة) .إذ تتماهى عوالم ماركيز المشتهاة, الذاكروية بامتياز, بما يشيده متخيلها ويثيره من أسئلة في الوجود والهوية.. ولا سيما في الإذعان الثالث والضلع الآخر للموت, فمتوالية الموت وأضغاث الحياة وبمعادلها السردي, ستستغرق غير نص ولتتجلى كرؤيا مبثوثة في ذلك النسيج في البعد السيري للجسد, كأسطورة وكحدث (لا يمكن أن يكون ميتاً لأنه يعي كل شيء, يعي الحياة التي تدور من حوله, كل شيء ينكر عليه موته, كل شيء ما عدا الرائحة).‏

(أحس أنه جميل في كفنه, جميل إلى حدّ الموت)...(فمن الأفضل له الاستسلام للموت هناك, أن يموت بالموت الذي هو داؤه), على أن المستوى الإخباري في سردية الموت, لن يكتفي في جعل الموت صدمة أو نهاية محتملة, بل سيجعل من الروائي ملاحقاً نصف حياة, ليتحرر من الإذعان لها وهكذا يبقينا - ماركيز - بقصدية ما, على مسافة من يقين الجسد, وهو يستدعي التصلب ويلاحق الرائحة (الفورمول), والوقوف على (السطح النبيل من الوقائع والأحلام), والقول بحياة أكثر اتساعاً وأقل امتلاء بظواهر بلاهة كالحب أو الهضم أو الخطأ والعبث, وهو يقارب النهايات وحضورها الغامض/ الواضح, بحثاً عن توازن كوني يجعل من الحلم رهاناً, فصيرورة لواقع جديد, بمعنى الانتقال من العالم العضوي إلى عالم لا يفسر سوى بالحلم, (عينا كلب أزرق) مثالاً, ولطالما توجّه خطاب ماركيز إلى الجسد, فهل من الطرافة أن يشكل تركيباً من امرأة وهرة, في (حواء في هرتها) ليستقرىء فلسفة عميقة تولدّها القصص التسع والثلاثون, حيث التجربة فالاختيار, ولعلنا لا نجد قصة مستقلة تماماً بل تتواشج مع ما يليه. إن ما نتذكره أو ما نعرفه يواجه على الدوام نسياننا, فلا بد من طريقة ما, لإستعادة ما نتذكره, هي إذاً كيفيات — ماركيز - بوساطة, لعبة الضمائر, وتكنيك سرد عالي الأداء يحيل إلى لغة مثقلة بالحيل الشعرية إنها الرحلة إلى كمال مشتهى, أداته الأفكار ما بين مجرّد ومحسوس, حينما يواسي متخّيله حباً آفلاً أو جمالاً غير مدرك كما في (موت مؤكد فيما وراء الحب) و (طائرة الحسناء النائمة) التي يكشف فيها الروائي عن إعجابه برواية ياسوناري كاواباتا, عن المسنين البرجوازيين في كيوتو, الذين يدفعون مبالغ طائلة لقضاء الليل في تأمل فتيات المدينة وهن عاريات ومنومات, بينما هم يحتضرون حباً في السرير! ومنها كتب ماركيز ذاكرة غانياني الجميلات, أي في ذلك (التناص) اللافت.‏

ربما أتاح حلم مضيء لماركيز من أنه حصر مأتمه بالذات, ليفيض برؤيته القائلة بالموت الواقعي, ويصوغ سيرة فيها الفرضيات إلى الذات, ومن ثم الوعي الكتابي بكثافة وجود, هو إيقاع, وما تغيره سوى برهة إضافية للإصغاء إلى لغة تكثر اختباراتها كما في (أجمل غريق في العالم) مثلاً أو (أثر دمك على الثلج).‏

حقاً, إن ماركيز (هو تعبير عن قارة) بتحولاتها وسيرها العجائبية والتاريخية والحزينة, وبدم أساطيرها الذي يخصّب السرد وينتج قولاً قصصياً مفتوحاً, قول تستبد به مفاهرة قصوى, كإرهاص ضروري لرواية كلية, في تجليات علاماتها الكبرى (مائة عام من العزلة, وخريف البطرياك, وغيرهما, حيث لا يكتفي - ماركيز - في قصصه أو رواياته وهو في مساء العمر الجميل بتعبير (ورد ذورث), من مراوغة حدسه, أو أن يضع (الأنا في مواجهة ذاتهما)!‏

المؤلف: غابرييل غارسيا ماركيز / الكتاب: القصص القصيرة الكاملة / ترجمة: صالح علماني / الناشر: المدى / الطبعة الأولى: 2008‏

تعليقات الزوار

سليم جواد |  salumjawad@hotmail.com | 20/06/2008 16:55

بشرفك هل أنت عاقل ؟ كيف إعتبرت غابرييل غارسيا ماركيز كاتبا برازيليا وهو أشهر حتى من نجوم السينما. هل يوجد قاريء ولو بسيط لايعرف جنسية ماركيز؟؟

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية