في الحديقة الكبيرة ثلاث شجرات ورد أو أكثر, كلّ مساءٍ أعدُّها, وأحاولُ أن أصطف قبالتها بترادف مثل ترادف أولاد المدارس الابتدائية, أوفّقُ أحياناً, وأفشلُ أحياناً.. وأعرف جيداً أن الترادف مع الورد أو وراءَه أو أمامه صعبٌ جداً, لكنني أحاول أملاً مني في اكتساب صداقة طيبة مع الشجرات أو بعض الوردات.. ولعلَّ هذا السعي الحميد يوصلني أخيراً إلى صداقة حقيقية مع شجرة واحدة أو وردة واحدة , أو يؤهلني نفسياً لبعض الأمنيات ويساعدني للحصول على براءة تقدير تجاه رغباتي وتطلعاتي..
الأولاد يُنجزون قسطاً وافراً من الصخب وفوضى النداءات, وينصرفون إلى الشجرة الأولى, فيؤذون أفراحها, ويعبثون بأوراقها .. يحاول المساء ردَّ الأذى , فلا يتمكن, فيبقى مراقباً يتقاضى رشوته صمتاً وانكفاءً , كما يفعل مراقبو الدوام في الشركات والمؤسسات العامة: يتقاضون رشواتٍ بسيطةً من الهاربين والهاربات.. قد تكون الرشوةُ ابتسامة طيبة أو لفافة تبغ, أو (مرحبا) طرية الملمس ,أو مصافحة واعدة , وقس على ذلك .. ونحن - المحبين- مراقبو سعادة وأفراح هاربة , قد نتقاضى وقد لانتقاضى ايماءة حبّ أو تلويحة مسرةٍ قادمة.
وصل أذى الأولاد إلى شجرة الورد الثانية, وساعدتهم في بسط نفوذ الأذى باتجاه الشجرة الثالثة, صبيّتان معتلتا فعل الحبِّ. وحروف العطف عندهما تعاني من حوادث عطفية غير موفقة, وغير صائبة.. حاولت أن أحضَّ المساء على شدّ الليل من جدائله السوداء, كي تهرب الصبيتان ويهرب الأولاد, وتبقى عافية شجرات الورد, لكن محاولاتي ذهب أكثرها أدراج المساء المتعفّر بالغبار, والملوّث بخراب أشجار الورد.. وهل أقسى من مشهد قتل الورد وتحطيم مستقبله أمام أعيننا?! إنّه وقتُ قتل الورد وتحطيم مستقبله لسوء الطالع!! الوردات التي قطفها وجمعها الأولاد أعطوها لأوّل قادم صادفوه , لأنهم لم يتعودوا , بعدُ, على إقامة معاهدات جميلة مع الورد.. امرأة تجلس على الكرسي المقابل لكرسيّ لطيفة قليلاً, ولاتؤذي أشجار الورد, لكنّها لاتُتعبُ نفسها في حماية أية وردة أو شجرة, ولاتردّ الأذى عن المعاهدات التي بين وقت الأمل وألوان الورد ورسائل العطر.. إنها امرأة تشبه خاطرة نثرية هادئة, وهي نفسها لاتتمنى أن تكون أكثر من خاطرة . كأنها تخشى الشعر.. قالت لي: لماذا أتعبت نفسك بالنداءات الموصولة والمتقطعة من أجل شجرات الورد: الأولاد جمّعوا الوردات وأعطوها لجارنا, وهو بدوره سيعطيها لزوجته?
- الوردة يجب أن تُهدى لوردة
- ومن أخبرك أن امرأته ليست وردةً?!
- شاهدتها مرّات ومرات تعبث ببقية /مرحبا/ بين شفتيها اللتين تشبهان حطباً بائساً, وشاهدتها ذات ظهيرة ترمي جدّة زوجها,التي ربّته , وأطعمت حرمانه أجمل عمرها.. شاهدتها ترميها بكلمات ثقيلة كالحجارة , وجارحة كأقسى أنواع الشوك.. التي تكون هكذا لاتصادق الورد ولاتُعلّم روحها شيئاً من علوم الرّقة المبدعة , والأنوثة الخلاقة, التي تملأ الوقت ببهجة حضورها الفنان.. المرأة التي تشبه الورد, تشبه الحبّ, والوفاء .. المرأة حين تصير الورد تصيرُ أندر أنواع الأناقة والرقة والألفة الحنونة.. حضور المرأة من أكبر الفنانين الكلاسيكيين والمعاصرين.. وتجيءُ مع حضورها شجراتُ وردٍ,وتجيءُ مهرجانات الشوق والعبق المعتق, وتجيءُ أبهى القصائد, التي لاتجيء من غير هكذا حضورٍ يكسرُ عتبة الصدأ والركود بالدّهشة المعلنة والمضمرة . المرأة التي من شعرٍ مليئة بالضمير المستتر وتزدحم حارة وجودها بحروف الإطلاق وقوافي الزهر و.. و.. صحيح أن عصرنا كافرٌ بالرّقة والوردِ والنساء القصائد, وأن أجمل مهرجانات الألفة لاتلقى قبولاً لدى جمهور واسعٍ من البشر.. وصحيح أن امرأةً كذبةً, مزينةً بسوار من الإعلانات تملك جمهوراً واسعاً , على حساب نساء أخريات يتصادقن مع أفعال الحبِّ والعطاء والرّقة والشغف الجميل.. صحيح كلُّ ما يقال عن عظمة الخراب الكوني واتساع نفوذه, لكننا- رغم كلِّ هذا- محتاجون إلى حضور(فنان) ولائق ومدهش.. بالرّقة تؤلف المرأة كوناً بسيطاً ورائعاً وقويّاً, ويتحدى الأذى.
كلَّ صباحٍ أفتّش في جيوب المدى عن شجرة وردٍ وناطورة أناقة, تجيء من جهة النهار محمّلةً بابتسامةٍ ورسالة عطر.. وكلَّ ظهيرةٍ ألتقي, بعد طول سؤال وبحث, بدهشةٍ وارفةٍ, وسط ركام الصخب وأغصان البشاعة المتدلية على نوافذ البيوت وواجهات الدكاكين والمتطاولة على عتبات أحلام الكثيرين الكثيرين السارحين في الشوارع والأمكنة.. لسنا أقوى من الخراب, لكننا لانؤمن بحكمته , ولانُملِّكه مفاتيح بساطتنا الطيبة, ولانعاونه بأيّ شيء عن قصدٍ أو عن غفلة.. نحن بكلِّ السرور الذي تملكهُ المرأة اللطيفة والوردة , لطيفون وطيبون وأصدقاء شجرات الورد, ونسأل الوقت عن القصائد, مع درايتنا الأكيدة بأن خراباً كونياً يحاول بسط سيادته على الطيبة واللطف والورد.. ماذا يفعل المحبون غير الحبِّ والطيبة والحضور الفنان القادر على إبداع الطمأنينة وتأليف الحياة الراقية قليلاً?!.