و كانت لديه الجرأة للقبول بالأمر الواقع الذي أملي عليه لسحب قواته من سورية كما أملي عليه الاعتراف باستقلال الجزائر و سوى ذلك من مواقف تؤكد بعد نظره , كل ذلك جعله يحتفظ لنفسه في الذاكرة الجمعية لشعبنا في منطقتنا و كذلك في مناطق أخرى , بمكانته التي أشرت إليها .
نحن نقرأ اليوم ما كتبه عنه ( جان غولميه ) في كتابه الموسوم بعنوان: (شارل ديغول الأديب ) و نزداد قناعة بأنه كان الرجل الذي عناه هو نفسه بقوله : إن الرجل الحازم إذا واجه الحدث يلوذ بنفسه , يعانق العمل بكبرياء السيد و يضفي عليه النبل . وجان غولميه , في هذه المناسبة , كان استاذاً في عدد من مدارس سورية قبل رحيل القوات الفرنسية عن ارضها و كان من المقربين إلى سلطات بلده .
مارس غولميه التدريس في دمشق و حماة و حلب , و قال في مدينة حماة التي عشق بساتينها و نواعيرها إنها مدينة فريدة لا مثيل لها .
و يعرف الأستاذ غولميه الجنرال شارل ديغول بأنه , في زمانه , كان يؤمن بأن أي مشروع عظيم لا يمكن بناؤه إلا بعد أن يسبقه إعداد جيد و معروف عن ديغول أنه دعا في هذا السياق , إلى فكرة التأمل و الرؤية الواضحة للأمور لأن هذين الشرطين كما قال : هما شرطان لكل عمل ناجح .
و بطبيعة الحال , فإن نجاح أي عمل يراد لتداعياته أن ترقى إلى مستوى التأثير في بلدان أخرى مجاورة كانت أم لم تكن ,هو بحاجة إلى رجال كبار قادرين على قراءة الحاضر و المستقبل معا , لأنهم بذلك فقط يضعون بلدانهم على السكة المستقيمة و صولا إلى الهدف المنشود من عملهم .
و لشارل ديغول في هذا المضمار قول جدير بأن يكون هادياً لمن يريد أن يتبوأ موقع الريادية في بلده , و أما القول فهو : إن سياسة أمة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالوسائل التي تستعملها, فإذا وهنت الوسائل الداعمة تحولت السياسة إلى خرافات !
و في اعتقادي أن قراءة شارل ديغول - بوصفه قائداً عسكرياً و أديباً , و مفكرا قارب المفاهيم الفلسفية في حياته -تغني ثقافة القارىء , و تطلعه على مجريات أحداث أيامنا هذه , و توضح له كم هو حجم العبء الذي يترتب على الكبار الكبار من رجالات الدولة حمله على عواتقهم , حتى تنأى الأمم , ومن بينها أمتنا العربية , عن الوقوع في شرك أعدائها , للنيل من كبرياء قادتها و سيادتهم بحجج مشبوهة وواهية تصدر , بين والحين , من عواصم القرار بدءا من واشنطن و انتهاء أيضا بواشنطن!
إن الزمن الراهن , يستدعي منا العودة إلى الرؤى الصائبة التي جعلت من سياسي كبير و عريق , كالجنرال شارل ديغول , بطلا في عيون أنصاره من قادة جيشه و أبناء شعبه في أربعينات القرن الماضي . و ها نحن نستنكر اليوم بعضا من أقواله و مواقفه التي يجب أن نقاربها , بتفهم و موضوعية و بغض النظر عن واقع الاستعمار الغاشم أيا كانت دوافعه , و خصوصا في ظروف منطقتنا التي تمر بأصعب ما عرفته منذ سنوات ما بعد الاستقلال على و جه التقريب
إن فرنسا اليوم , ليست فرنسا ديغول بالتأكيد . فرنسا ديغول كانت فرنسا الواقع لا فرنسا الوهم . كانت فرنسا ثورة عام 1789 , لا فرنسا التي تربط مصالحها بفريق من هذا اللون أو ذاك , هنا أو هناك , سواء في منطقة الشرق الأوسط أو في القارة الأفريقية , و سوى ذلك ,لأن سبيل الوصول إلى الغاية لا يبرر دائما الوسيلة و الحاضر أمامنا خير دليل على قولنا هذا.
Dr-louka@maktoob.com