وفي حال لم تستأنف المساعدات المالية طريقها نحو الحكومة الفلسطينية, لإعطائها جرعة ضرورية للانطلاق والعمل, فإن تحالف كافة القوى الفلسطينية, وعلى رأسها حماس وفتح مهدد بالانهيار, وبالتالي عودة شبح الاقتتال الداخلي إلى الأراضي الفلسطينية من جديد.
وحرمان حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية من فرصة النجاح.. ومع ذلك تبدي الدول المانحة تردداً, فهي تريد أن ترى الفعل أولاً قبل الالتزام بمنح المساعدات المادية, إنه أشبه بمقولة من الأول: الدجاجة أم البيضة?.
والوضع الشائك يتمثل في أنه وفي ظل عدم وجود الأموال, فإن الحكومة الفلسطينية عاجزة عن دفع رواتب موظفيها ومتقاعديها, كتلة رواتب تبلغ 115 مليون دولار شهريا, تؤدي بدورها إلى انعاش الاقتصاد, في وقت بد الانهيار يصيب القطاع الخاص, حيث العديد من المؤسسات والشركات جمعت حاجاتها, وهبت للرحيل.
وتعول إسرائيل كثيراً على انهيار الحكومة الجديدة. فهي ترفض قطعياً التفاوض معها, وتطالب الأسرة الدولية مواصلة مقاطعتها, لا تريد الاعتراف بها, بل زوالها, وفي موقف لا سابق له, لم تسجل وزيرة الخارجية الأميركية كوندا ليزا رايس انحيازاً كلياً للجانب الإسرائيلي, وقد عادت ثانية إلى منطقة الشرق الأوسط, بعدما أعلنت استعدادها للقاء وزراء ليسوا أعضاء في حركة حماس, وحسب تعليماتها, قام القنصل الأميركي في القدس جاكوب ويلز بزيارة إلى رام الله للقاء وزير المالية الفلسطيني سالم فياض, حيث التزمت حكومة تل ابيب إزاء ذلك صمت الأموات.
وفي واشنطن, عارض أحد صقور الإدارة الأميركية, إليوت ابرامز عضو مجلس الأمن القومي والمدافع الشرس عن إسرائيل تقديم أي تنازلات للحكومة الفلسطينية, فالأمل ما زال يحدوه بأن تخرج حركة حماس بعيداً, ربما من خلال صناديق اقتراع جديدة, وعلى ما يبدو فاجأ اتفاق مكة بين حركتي فتح وحماس برعاية سعودية كل من الولايات المتحدة وإسرائيل, وأصابهم بتلبك شديد, والآن يبحثون في كسب الوقت, أملاً في أن تنهار حكومة الوحدة الوطنية.
وطبعاً, سوف تواجه الحكومة الفلسطينية الجديدة صعوبات كأداء في تسيير شؤون البلاد في حال واصلت إسرائيل تجميد الأرصدة الفلسطينية البالغة 50 مليون دولار, هي عبارة عن عوائد فلسطينية احتفظت بها تل ابيب على وجه غير شرعي, وكذلك في حال واصلت واشنطن تهديدها بفرض عقوبات على المصارف العربية التي تقوم بتحويل أموال إلى الفلسطينيين.
وهنا نشهد اختبار قوة يجري بين أولئك الذين يبغون في إسرائيل والولايات المتحدة إفشال التجربة الفلسطينية الجديدة, وبين العرب والأوروبيين الذين يعتبرون أن حكومة الوحدة الوطنية هي فرصة مؤاتية للخروج من الأزمة.
والأوروبيين كحالهم دوماً منقسمين بين بعضهم, ولكن وحتى وإن اعلنت بعض دولهم, مثل فرنسا واسبانيا وبلجيكا استعدادها للحوار مع الاعضاء المستقلين في الحكومة الفلسطينية مثل وزير الخارجية زياد أبو عمر أو وزير المالية سالم فياض, فإن ذلك ما لم يقترن بضخ المساعدات المالية لها, فهو إسداء خدمة مجانية لأولئك الذين يتطلعون إلى إفشالها.. إذ إن التفريق بين أعضاء الحكومة ليس بالسياسة السليمة بل إنه يؤدي إلى اضعافها, ويشجع على الشقاق بينها, ولا شك أن الجهود التي تبذلها المملكة السعودية في سبيل تثبيت قدم الحكومة الفلسطينية الجديدة, جهوداً واعدة, وقد استقبل الملك السعودي عبد الله مؤخرا رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل. كما وتبنى مؤتمر القمة العربية المنعقد في الرياض مبادرة السلام العربية دون اجراء أي تعديل عليها.
وحسب مصادر لندنية, يدرس رئيس وزراء بريطانيا طوني بلير اجراء حوار مع حماس, وهذا يعتبر في حد ذاته تبدل جوهري في السياسة البريطانية, ومن شأنه تشجيع بلدان أوروبية أخرى على كسر المقاطعة, ولكن لغاية الآن, ليست من مؤشرات تدل أن بلير تخلى عن تضامنه مع الموقف الأميركي والإسرائيلي.
وفي رسالة, هي خطوة استثنائية, وجهها إلى الملك المغربي محمد السادس بصفته رئيساً للجنة القدس, أشار بلير بوضوح أن (بريطانيا لا تعترف بأي سيادة على أي جزء من القدس, حيث يظل وضع القدس بحاجة إلى تحديد. ويتعين تسوية مشكلة القدس ضمن إطار اتفاق الوضع النهائي, وبانتظار هذا الاتفاق, تعتبر القدس الشرقية أرضاً محتلة, ولا نعترف بأي مطالبة بالسيادة على تلك المدينة, ونحن لا ندعم أي اجراء يستبعد المفاوضات حول مستقبل الوضع النهائي للقدس).
ورغم أن هذا هو الموقف الرسمي لبريطانيا منذ زمن بعيد, ولكن يرى المراقبون في لندن أنه ولأول مرة يعبر بلير بطريقة متمايزة في هذا الموضوع, ويبتعد عن الموقف الأميركي والإسرائيلي, ورسالته كشفت عن غضبه الشخصي إزاء التشدد الإسرائيلي, ورغبته بإعلان رأيه ووجهة نظره قبيل مغادرته مكتبه في داووننغ ستريت الشهر المقبل.
وتعتبر النرويج الدولة الأوروبية الوحيدة التي أعلنت استعدادها لإقامة علاقات كاملة سياسية واقتصادية مع الحكومة الفلسطينية الجديدة.. وبما أنها ليست عضواً في الاتحاد الأوروبي فهي في حل من أمرها من شروط الرباعية للتعامل مع حماس. الشرط الذي أملته واشنطن.
وقد باتت مسألة تقديم المساعدات للشعب الفلسطيني موضع جدل واسع, وقد وصل إلى الفلسطينيين, رغم الحصار المفروض عليهم من الولايات المتحدة وإسرائيل وأوروبا, عقب انتصار حماس في انتخابات عام 2006 مبالغ مالية من الدول الغربية العام الفائت, ولكن بدلاً من أن تذهب هذه الأموال إلى صندوق الحكومة, ذهبت كلها إلى وكالات الأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية, تحت شكل مساعدات إنسانية لمساعدة الشعب الفلسطيني الذي يعاني الأمرين بسبب الاجراءات العقابية الجماعية الإسرائيلية لهم, ففي غزة, على سبيل المثال 49% من سكانها يستحيل عليهم تلبية احتياجاتهم الأساسية. والمفارقة هي أنه ومن خلال الالتفاف على الحكومة المنتخبة ديمقراطياً, ساهم المانحون الدوليون في فقدان الشفافية في دفع الأموال.
وفي مقال له نشرته صحيفة الهيرالد تريبيون في 21 آذار المنصرم, كتب ألفارو سوتو المبعوث الخاص للأمم المتحدة في الشرق الأوسط يقول: (يخشى أن تنهار المؤسسات الفلسطينية التي تسعى الدول المانحة إلى اعدادها, وهذا سيكون خطيراً للغاية, لأن تلك المؤسسات هي الأساس لقيام دولة فلسطينية في المستقبل).
ويعلو التآكل البطيء حالياً عملية الحصار, ولكن في انتظار ما ستفعله الحكومة الفلسطينية, تلك الحكومة التي تبدي كفاءة عالية رغم الصعوبات الكبيرة التي تواجهها. والمساعدات أخيراً سوف تصل, ولكن هل يمكن لتلك الحكومة أن تستمر لغاية ذلك الحين? وفي حال لم تبادر الأسرة الدولية وتتصرف فالعقابيل هي بالتأكيد العنف والفوضى. وكحالها دوماً, تعتبر إسرائيل العقبة الأساسية أمام استقرار الأوضاع في الأراضي المحتلة, وفي طريق التقدم باتجاه جبهة السلام.
واحتمال كبير أن لا يستمر رئيس وزراء إسرائيل أيهود أولمرت في منصبه لغاية نشر تقرير فينو غراد حول سياسته خلال الحرب التي خاضتها بلاده ضد لبنان الصيف الفائت, في وقت يعاني حزب كاديما من الانقسام بسبب صراعات داخلية في صفوفه,وتتطلع وزيرة الخارجية تسيبي ليفني لأن تخلف أولمرت في حال غادر السلطة.
وتشير آخر استطلاعات الرأي أن 50% من الإسرائيليين يؤيدون اجراء حوار مع الحكومة الفلسطينية الجديدة, ولكن مكتب أولمرت ليس لديه النية ولا الشجاعة لمواجهة هذا التحدي. ووحدها الضغوط الأوروبية والعربية مشفوعة بدعم أميركي ولو قسري كفيلة بحمل إسرائيل للقدوم إلى طاولة المفاوضات.