فالكتاب يشكل مرجعاً مهماً لفهم السياسة الأميركية وآليات صنع القرار فيها, وما يميزه عن الكتب المترجمة الكثيرة التي تتناول الموضوع نفسه, انه موجه في الأصل إلى القارئ العربي, يخاطب مفاهيمه وهواجسه ويدقق في رؤيته سعياً إلى تجاوز النظريات المتسرعة والتفسيرات المبسطة وهو ما يأتي منسجماً مع ما يلح عليه هيكل باستمرار: أن نفهم, هذا هو المدخل الطبيعي والضروري للتعاطي مع السياسة الأميركية بعيدا عن الأوهام والشعارات والأفكار المسبقة.
يبدأ الكتاب بتأملات في تاريخ الولايات المتحدة, وتحديدا في كيفية انتقالها من دولة إلى إمبراطورية, مستعرضا أهم الملامح المميزة في تركيبة الأمة الناشئة والتي تشكل سابقة تاريخية في وجوه كثيرة منها.
منذ أن اكتشف كولومبس العالم الجديد توالت موجات الهجرة ولم يمض غير قرن أو قرنين حتى ظهر على مساحة القارة مجتمع فريد من نوعه فهو خليط قلق ومتنافر متحفز ونشيط تجمعه المجازفة وحدها, بعيداً تماما عن أي رابط تقليدي مثل الوطنية أو القومية أو الدين, الشيء الذي سرعان ما حول الدولة في أذهان مواطنيها إلى مجرد إطار لتنظيم جني الفوائد وحماية المصالح الاقتصادية, وقد ترتب على ذلك (أن الإمبراطورية الأميركية لم تستطع في أي وقت أن تستوعب فكرة الوطنية الموحدة أو فكرة القومية الجامعة أو فكرة الرابط الديني الواسع وبالتالي فإنها عند تعاملها مع أطراف تستند على مثل هذه الأسس وقفت أمام حاجز ثقافي منيع أدى بها إلى مشاكل بلغت حد العناد والعداء مع بلدان تمسكت بداعي الوطنية المستقلة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وحتى في أوروبا...)
وخلافاً للأساطير التي أشاعها أوائل المغامرين, فإن المهاجرين لم يجدوا أمامهم أرضا بلا شعب بل وطناً شاسعاً لأقوام كثيرة أسموها ببساطة: الهنود الحمر. وبما أن التفكير بالعودة إلى الأوطان القديمة كان مستبعداً فقد تحتم على هذا الآخر الغريب (السكان الأصليين) أن يختفي بأي وسيلة وبأي ثمن, وهو ما تحقق بالفعل مرسخاً قاعدتين ذهبيتين في مستقبل الأمة الجديدة: ضرورة معرفة الآخر من خلال الاهتمام بجمع المعلومات عنه, وشرعنة استخدام السلاح ضده في أي وقت وتحت أي ذريعة.
ثمة علامة فارقة أخرى: العلاقة بين رأس المال والدولة ظلت, ومنذ التأسيس, محكومة بنوع من الشذوذ, فالدولة في الإمبراطوريات القديمة (الإنكليزية والفرنسية والإسبانية...) كانت هي القاطرة التي جرت وراءها رؤوس الأموال بينما, في الحالة الأميركية, كانت الصورة معكوسة: رأس المال هو الذي يقود الدولة وراءه إلى بقاع مختلفة من العالم, وهكذا (لم يكن مستغربا أن تكون مقدمة الظهور الأميركي إلى العالم رجالا من طراز مورجان وهو رأس أسرة اعتمدت ثروتها في الأصل على جد من كبار القراصنة خبأ كنزه في إحدى جزر البحر الكاريبي ثم ترك لأسرته خريطة تدل على موقعه..)
لماذا العراق ?
يمهد هيكل للإجابة على هذا السؤال بالحديث عن التركيبة الحالية لدوائر القرار في واشنطن والتي تتألف أساسا من ثلاث جماعات ضغط كبيرة أهمها ما يسميه ب (الفريق الإمبراطوري) وابرز رموزه دونالد رامسفيلد, وريتشارد بيرل, وبول وولفويتز...هؤلاء وغيرهم أعلنوا مبكرا نيتهم في جعل الولايات المتحدة تلعب دورها (الطبيعي) كإمبراطورية وحيدة في العالم بلا أنداد أو شركاء مع ما يقتضيه هذا من إجراءات عملية صارمة تفرض سيطرة واشنطن على بقاع الأرض جميعها. وعندما فاز جورج بوش الابن بالانتخابات الرئاسية عام 2000 فان الفريق الإمبراطوري هذا قد احتل مواقع حساسة وتحديداً في (البنتاغون) فيما عرف بمجلس سياسات الدفاع, والذي ظل سرياً حتى كشف عنه الصحفي الشهير سيمور هيرش, ويبدو أن ما عكف عليه هذا المجلس فور تأسيسه هو وضع حلم (القرن الأميركي) موضع التنفيذ, وكانت الخطوة العملية الأولى تنتظر الضوء الأخضر وهذا الضوء بدوره كان ينتظر ذريعة ما, وهكذا (فقد جاءت أحداث أيلول بمثابة هدية من السماء..)
وهنا يتكئ هيكل على الصحفي الأميركي الشهير بوب وودوارد الذي وثق وقائع النقاشات الساخنة التي أعقبت (11 أيلول), وفيها يتضح أن الفريق الإمبراطوري وعلى رأسه رامسفيلد أصر على تحميل العراق مسؤولية الأحداث لا لرابط واقعي بل ببساطة لأن العراق هو الخطوة الأولى المعدة سلفا في مشروع الإمبراطورية الجاهز على الورق. وينقل وودوارد الجهود المضنية التي بذلها وزير الدفاع لإقناع الإدارة بأن الحرب يجب أن تشن على العراق وليس على أفغانستان, وكانت حججه تتلخص في أن أفغانستان هدف سهل لا يتيح الفرصة لعمل درامي وبالتالي فإن النصر على طالبان لن يضمن لبوش الفوز في ولاية ثانية, والأهم: أن العراق, وليس أفغانستان, هو قلب العالم بموقعه الاستراتيجي ونفطه وقربه من إسرائيل (الوكيل الأهم في الشرق الأوسط) وقد بدا إلحاح رامسفيلد مستهجنا حتى لبعض زملائه في الإدارة ولاسيما كولن باول وزير الخارجية الذي اظهر امتعاضا شديدا طيلة هذه المناقشات, غير أن ما بدا جنونا محضا لن يحتاج إلا اقل من سنتين ليغدو واقعاً. لقد انتصر الفريق الإمبراطوري, ومنذ انتهاء الحرب الهزيلة على أفغانستان فإن الهاجس الوحيد للإدارة صار يتمحور, فقط, حول كيفية تسويغ الحرب على العراق والتي لا تملك أي مسوغ. وثمة في هذا السياق واقعة طريفة,فأحد كتاب خطابات بوش (دافيد فروم) أبلغ ذات يوم أن الرئيس سوف يلقي خطاباً يحضّر فيه الرأي العام لهجوم على العراق وعليه بالتالي إيجاد تهمة ما تكون مناسبة, فذهب هذا يفتش بلا جدوى وكان كلما وجد شيئا ضد العراق يكتشف انه يسيء للولايات المتحدة أيضا, إلى أن عثر أخيراً على صيغة ملتبسة..عامة..فضفاضة ناحتاً مصطلح (محور الشر) الذي سيتلقفه بوش بحماس ويلوكه طيلة الأشهر التالية, ويبدو أن زوجة كاتب الخطابات قد أخذتها النشوة فكتبت رسالة الكترونية إلى والدتها لتزف لها أن صهرها هو الذي أطلق العبارة المدوية التي تملأ العالم دون أن تعرف بأن هذا التبجح سوف يحول (الصهر) إلى عاطل عن العمل.
الذين يحكمون العالم
عندما كان الرئيس الأميركي الأسبق دوايت أيزنهاور يلملم أوراقه ويستعد للانصراف من البيت الأبيض إثر انتهاء ولايته الثانية (عام 1960) اختار أن يودع شعبه بخطاب يكون بمثابة وصية. قال انه يلمس في الأفق أمراً مقلقاً وهو أن القرار في بلاده ينتقل خفية إلى أيدي جهات غير منتخبة وبالتالي غير خاضعة للمساءلة: تكتلات مصالح وهيئات مرتبطة بشركات خاصة تنطق بما يلاءم أهدافها وليس بما يلاءم الأمة. وإذا بدت نصيحة أيزنهاور للبعض مجرد شطحة فإن السنوات اللاحقة أثبتت أنها نبوءة صادقة, فثمة اليوم مصطلح شائع في الولايات المتحدة وهو (think tank) وهؤلاء عبارة عن جماعات تشكل نقاط تقاطع بين المال والفكر والسلاح; مستشارون لمؤسسات عملاقة يرسمون خططاً تناسب مصالح شركاتهم ثم يحتضنون مرشحا ما للرئاسة يرسمون برامجه ويقومون بأنفسهم بتنفيذها تحت مسميات مختلفة, وتشكل جماعة رامسفيلد في مجلس سياسات الدفاع نموذجاً ساطعاً على ذلك, فهم بالأساس مستشارون لشركات نفط وأسلحة, وبالتالي فقراراتهم هي قرارات شركاتهم وإن تم تغليفها في استراتيجيات على مستوى الأمة... إذاً فالمشروع الإمبراطوري هو مشروع رأسمال يبحث عن أفق أوسع, وهو ما يجعل هيكل مصراً على استخدام مفردة (الإغارة) في حديثه عن الغزو الأميركي للعراق,فهي تفيد أكثر من غيرها في الإشارة إلى السلب وتوزيع الغنائم...
*الكتاب: الإمبراطورية الأميركية والإغارة على العراق محمد حسنين هيكل دار الشروق