ولكن لماذا يختلف موت عن موت.. لماذا لا يعدو الموت عند بعض الناس مجرد انطفاء لجسد واستقرار في حفرة ترابية ضيقة ويكون الموت عند آخرين هزة روحية ونفسية عميقة ومشهدا مروعا لا يغيب عن الذاكرة ألم يقل الشاعر:
وما كان قيس هلكه هلك واحد
ولكنه بنيان قوم تهدما
هكذا كان موتك يا أبا الود.. فماذا أتحدث عنك وكل أقرباؤك وأحبابك يختزنون فوق ما أختزن أنا من خواطر وذكريات.. ألا يعرف الجميع أنك كنت شعلة وقادة من الحركة والحيوية والنشاط فكرا وجسدا وروحا تنتقل من بلد إلى بلد فلا تعود من مؤتمر إلا لتشارك في مؤتمر آخر.. ولا تنقضي دورة تدريبية من معسكرات الطلائع إلا وتستعد للسفر والمشاركة في دورة جديدة.. ألا يعرفون كم كنت تشعر بالبهجة حين تمنح الناس البهجة.. وكم كنت تكسب من مودة الآخرين وشغفهم بك حين تعطي بلا حساب وتمنح بلا حدود.. لقد كانت حياتك لوحة فنية عرفت كيف تصنع ألوانها وخطوطها, وعرفت كيف تملأ كل زاوية منها بما شاءت لك شخصيتك المتوثبة من قيم نبيلة وشمائل رضية. وعرفت أن الحياة أبهى من أن يبددها الإنسان تبديد الأخرق الذي لا يعرف قيمتها ولا يتبصر في آفاق فتنتها, ذلك لأنك كنت تؤمن دون أن تدري بقول الحكماء (الحركة ولود والسكون عقيم) فكنت تنفر من العقم والخواء وتحب أن ترى الحياة في ولادات متجددة.. إن حبك للحياة جعل الحياة نفسها تبادلك هذا الحب, فإذا بأهليك وأقربائك وعلى بعد المسافات لا يفتؤون يتسقطون أخبارك ويتشوقون إليك وإذا بأحبابك وأصحابك يتوقون إلى لقاء بك أو اجتماع إليك,.كم كانت حياتك متشعبة موزعة بين العمل في الطلائع والاهتمام بالنقد الفني والتفرغ للرسم والإبداع والكتابات الأدبية.
أفتغيب عن سمعي ضحكاتك الندية ونبرات صوتك الفتية! أو يغيب عن نظري محياك السمح وبسمتك التي يستعير الربيع منها ما يشاء من ألوان! أو تغيب عن روحي ملامح سجاياك النبيلة وصفاء نفسك ورأفتك بالتعساء الذين خانتهم الحياة, وإقبالك على مشاركة الآخرين, فتحزن لأحزانهم وتفرح لأفراحهم, فعن أي جانب من جوانب شخصيتك أتحدث والخواطر تزدحم في مخيلتي, وتمد أعناقها وتتسابق إلى الظهور والتأنق والتبرج.. ما أعظم حياتك وما أعظم موتك! لقد كنت تواجه كل ما يصدمك ويعيق خطواتك بجلد الرجال وجرأة الأقوياء, أتذكر كيف بدأ المرض يداهمك ويناوشك قبل سنتين من وفاتك ويدفعك إلى المستشفيات ويعرضك لمباضع الجراحين فهل شكوت شكوى الضعفاء في يوم من الأيام, وهل تأوهت تأوه المتخاذلين في ساعة من الساعات! ولم يكن ذلك منك مكابرة وتحديا فالإنسان ضعيف أمام الألم الجسدي مهما بلغ من الجلد والصبر, ولكنك كنت مع ذلك تتحدث وتسأل عن الصغير والكبير, وتبتسم في وجه زائريك ثقة منك بالله والقدر, ورغبة منك في أن تشهد في لحظاتك الأخيرة بسمة الآخرين وألا تعكر صفوهم بآلامك وأحزانك ولسان حالك يردد:
بسماتي سخية
وجراحي مضمده
رحمك الله يا أبا الود وأوسع لك فسيح جنانه وغفر لك ما قدمت وما أخرت وجعل الله من ذريتك الصالحة امتدادا حسنا يدعون لك بالرحمة والمغفرة ويكونون خير خلف لخير سلف.