فالأميركان بطبعهم مع أوروبا مشاركة في القيم والعقائد والتراث الثقافي والفلسفي والتي من شأنها أن تترجم إلى علاقات اقتصادية وثقافية وأحلاف عسكرية ويصعب أن ينفصلا عن بعضهما لأن حدوث ذلك يعني تمزيق نسيجهما التاريخي. ولذلك نجد أن التواجد القوي لأميركا في مشكلة جنوب السودان ينسجم مع حقائق تاريخيه بدأتها بريطانيا عندما حولت جنوب السودان إلى منطقة مقفولة ومنعها لحركة التواصل الاجتماعي والثقافي والتجاري القادم من أهل الشمال إلا بموجب تصاريح دخول مسبقة، كما أنها عملت على تزكية الاختلاف الديني والعرقي والثقافي بين الجانبين بهدف تعميق الفجوة بينهما وقطع الطريق مسبقاً أمام محاولات أهل الشمال الرامية إلى تحقيق نوع من التماثل الراقي المبني على مفاهيم قيمية إنسانية شاملة تستوعب أهل الجنوب والشمال في إطار وظيفي جامع يوحد ولا يقسم ويقرب ولا يباعد وهذا ما يتعارض مع توجهات السياسة البريطانية القائمة على أساس فكرة فرّق تسد من أجل أن يعيش جنوب السودان في شبه عزلة عن امتداده الطبيعي الذي يربطه ببقية السودان، وبالتالي فلا غرابة في أن تستكمل أميركا ما بدأته بريطانية وتحويل جنوب السودان من منطقة مقفولة إلى منطقة منفصلة كلياً عن الكيان السوداني الكبير .
لذلك فمن الطبيعي والحال السوداني يعيش تحت وطأة النزاع والصراع والاختلاف منذ خمسة عقود وما خلفه من مشاهد مأساوية معروفة أن تطل أميركا برأسها على الشأن السوداني وهي إطلالة تتطابق مع الدراسات والمشاريع والخطط الإستراتيجية التي طالما نظر لها كيسنجر وبرينجسكي اللذان دأبا في كثير من كتاباتهما على التحريض بضرورة تقسيم وتفتيت الكيانات الكبرى والتي بدأت بسلخ عدة جمهوريات عن الاتحاد السوفيتي سابقاً ونفس الشيء حصل مع يوغسلافيا والآن جاء الدور على الدول العربية والإسلامية الكبيرة بهدف تقسيمها على أسس عرقية أو دينية حتى يسهل التعاطي معها أو السيطرة عليها بما يحقق المصالح القومية الأمريكية بكافة أبعادها الجيوسياسية أو الاقتصادية أو الأمنية وكانت أولى المحطات تجاه الدول الإسلامية فصل تيمور الشرقية عن أندونيسيا.
وهنا من منا لا يتذكر الجولة الشهيرة التي قام بها الرئيس الأسبق بيل كلينتون في عام 98 والتي شملت ثماني دول إفريقية وفسرت في حينها من قبل عدد من المتابعين بأنها أول مؤشر جدي من جانب أميركا تجاه إفريقيا يؤسس إلى تحرك أميركي قد يكون له فعله المؤثر في إعادة تشكيل الخارطة السياسية لبعض الدول الإفريقية وبالتالي لم يكن الاهتمام الأميركي بإفريقيا ككل والسودان كجزء وليد اللحظة بل له ما يدلل على ذلك من خلال حسبة الراصد المتابع ولهذا يأتي السودان ضمن الدولة الإفريقية التي وضعت في حسابات المخطط الأميركي لأن السودان مستقر موحد يعني أنه قد يتحول إلى قوة إقليمية وازنة لا يمكن تجاوزها نتيجة لما يتمتع به السودان من مساحة شاسعة تزخر بثروات زراعية وحيوانية ونفطية ومعدنية هائلة تمكنه من أن يلعب دوراً مهماً وفاعلاً في حسم الكثير من المشكلات والصراعات وفي مقدمتها الصراع العربي الإسرائيلي.
وبالتالي لابد من أن يكون لأميركا تواجد مؤثر يهدف إلى صياغة سودان جديد يتغير فيه شكل السودان القديم ولتحقيق ذلك الهدف قامت إدارة الرئيس السابق بوش الابن بلعب دور أساسي وقيادي في عملية السلام بإقرارها لاتفاقية نيفاشا التي أكدت حق تقرير المصير لسكان الجنوب ثم جاءت إدارة الرئيس أوباما على إنفاذ بنود الاتفاقية وخاصة البند المتعلق بإقامة الاستفتاء في /9/ كانون الثاني 2011 دون أن تخفي نواياها الداعمة لخيار انفصال الجنوب وإن كل التحركات التي يقوم بها المبعوث الأميركي كريشن وكذلك النائب في الكونغرس جون كيري مؤخراً تهدف إلى تلطيف الأجواء بين (جوبا والخرطوم) بحيث يجري الاستفتاء بصورة قانونية وسلمية وسلسلة . وإذا كانت نتيجة الاستفتاء الانفصال كما هو متوقع فإن الفترة الانتقالية الممتدة لسنة أو سنتين كفيلة بحسم القضايا العالقة المتمثلة في الحدود، والمياه، وأصول الدولة، والعملة، وتقاسم عائدات النفط، والمعاهدات، والجنسية .... .
وبما أن سيناريو الانفصال هو الأقرب حدوثاً فإن السياسة الأمريكية الحالية تعمل بجد من أجل تعزيز التعاون مع زعيم الحركة الشعبية سلفاكير والذي أعلن من واشنطن عن تأييده لخيار الانفصال بل دعا الجنوبيين من أجل التصويت لصالح الانفصال، واضعاً حداً قاطعاً لكل التأويلات والتفسيرات لموقف الحركة التي يتزعمها بخصوص الاستفتاء، أي إن مشروع السودان الجديد الذي نظر له الراحل جون قرنق كان مشروعاً تكتيكياً وليس استراتيجياً ولم يعد متداولاً وفي نفس السياق كشف ممثل الحركة الشعبية في واشنطن /ازيكيل لول/ في تصريح له لصحيفة واشنطن تايمز بتاريخ 25/12/2009 أن أميركا تدعم انفصال الجنوب وتضخ مليار دولار سنوياً لمشاريع البنية التحتية وتدريب رجال الأمن وإعداد جيش قادر على حماية الجنوب، وبالمقابل فإن أميركا تسعى لجعل جنوب السودان قاعدة عسكرية ومركزاً لقوات/الأفريكوم/ - التي لم تجد موطئ قدم لها في إفريقيا . بمعنى أن كل ما كانت تروج له أميركا في السابق بدعم السودان الموحد بعد إتمام اتفاقية السلام ما هو إلا فرية كبرى.
ولقد أعطت كل هذه التطورات التي يشهدها السودان الفرصة الكاملة لإسرائيل بأن يكون لها تواجدها وهو تواجد رسخ أقدامه بقوة في منطقة البحيرات وشرق ووسط إفريقيا ولم يعد وجوداً متسلسلاً ولا متغلغلاً بل أصبح وجوداً متمركزاً من خلال شبكة علاقات واسعة أقامتها إسرائيل في المجالات السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية لدرجة التأثير على مواقف دول المنطقة وتوظيفها لصالحها في صراعها مع العرب وقد وضح ذلك جلياً عندما تمكنت اسرائيل من فرض أجندتها على دول المنبع الإفريقي لنهر النيل لما يمثله من أهمية حيوية كشريان للحياة لكل من مصر والسودان .
وبهذا الخصوص بدأت اسرائيل بتقديم الإغراءات لحكومة الجنوب في مساعدتها في بناء السدود المائية على نهر النيل كما أبدت رغبتها بتقديم الدعم السياسي والاقتصادي والأمني للدولة الجديدة وذلك عندما التقى مستشار الأمن القومي الإسرائيلي (غوري عاراد)بممثل الحركة الشعبية – ازيكيل لول – على هامش مؤتمر «الأيباك» الذي عقد مؤخراً في واشنطن وتوطيداً للتواجد الإسرائيلي في جنوب السودان فقد شرعت القيادة الإسرائيلية بوضع الترتيبات اللازمة لإقامة أكبر سفارة لإسرائيل في منطقة شرق الأوسط وأفريقيا .
وفي ظل هذه الأجواء التي تؤكد على الوجود الأجنبي البائن بينونة كبرى والمتمثل في أميركا واسرائيل وبدرجة أقل لكل من ألمانيا وفرنسا يلاحظ المتابع الغياب العربي غير المبرر الذي ترك السودان لوحده يواجه مصيره ويقارع كل هذه القوى الكبرى ومخططاتها المتربصة لتقسيم السودان بإمكاناته المحدودة طوال هذه المدة، دون أن يكون هناك أي ردة فعل عربية تشكل حالة إسناد للموقف السوداني لتصحيح المعادلة.
وفي كل الأحوال من الضروري الاعتراف بسوء النتائج المتوقعة عن الاستفتاء في حال أقر الجنوبيون الانفصال فإن له ما يتبعه وستكون انعكاساته مضرة على المدى القريب أو البعيد لكافة الدول العربية بدلاً من الإصرار على أنها أمور مقبولة مادامت حتمية.
صحفي سوداني