كانت الأقدام وحدها بذهابها الطويل وإيابها هي من يشكل الممرات والدروب للذهاب إلى الحقول والحبيبات.
وعندما ابتكر الإنسان الدواليب.. لم تعد الدروب كافية,
لذلك مهد الإنسان الطرقات.. للعربات أولاً وبعد ذلك السيارات. وبعد أن اتسعت الطرقات وامتدت, كان لابد من ابتكار الأرصفة حتى لا تسحق الدواليب الناس.
وبسبب الأرصفة نهضت الدكاكين, وانتشر البيع والتداول ونبتت في رؤوس الناس أعتى الأفكار. وحتى لا يكون في الأرض والعيون والرئات غبار.. انتزع الإنسان الأحلام السوداء من قلب الأرض وصيرها إسفلتاً وفرشها على الطرقات.
بعد ذلك تشكلت البلديات وتمدنت المدن وانتشرت وابتكر منظروا العمران.. الضرائب وأعادوا صياغة أسماء الأشياء.. والرسوم الواجب دفعها عليها.
فابتكروا ضريبة للصرف الصحي وضريبة للملاكية وضريبة للنظافة وضريبة للزفتية, وضريبة لعبور الهواء. كل هذه الضرائب وضعتها البلديات في المدن على الناس, ليحسوا بأنهم شركاء مع بعضهم في امتلاك الطرق والمساحات والأشياء.. الآن وبعد أن أصدرت الحكومة تسهيلات لشراء السيارات, وأحسسنا أننا من الشعوب التي تمتلك حظوظاً لا تأكلها النيران.. لذلك انطلقنا بهمة ونشاط لشراء السيارات ودفع ضرائبها التي تزلزل الجبال.
وبعد أن قمنا بشراء السيارات ورجعنا بها إلى بيوتنا لنركنها تحت أنظارنا ونطلق نحوها أفدح النظرات والتنهدات.. قامت البلديات المباركة ومجالس المحافظة الحريصة على دفع المواطنين للفرح وعدم التفكير بالانتحار.. ببيع الشوارع.. نعم ببيع الشوارع.. لمستثمر من المقربين إلى القلوب والأسماع وبمبالغ زهيدة. فقام هذا المستثمر مشكوراً بوضع رسوم مضاعفة خمس مرات عن الرسوم التي كانت تأخذها محطات الانتظار السابقة.
وصار انتظار الساعة الواحدة يساوي خمسين ليرة, وأخذ المستثمر الشجاع في الليالي المقمرة وبعيداً عن أنظار المعنيين والمعنيات يضم إلى حيازته أعداداً غفيرة من الشوارع حتى لم يعد في حلب شارع واحد لم يتعرض للبيع والسبي والانتهاك. وهكذا هجرت السيارات هجرة جماعية إلى الأطراف, وصار مطلوب من المواطن أن يسافر إلى سيارته عوضاً أن يسافر بها, لذلك نستصرخ ضمائر المعنيين وسياراتهم المركونة في أفضل الكراجات أن يعيدوا لنا شوارعنا, أو ليدفعوا عنا ضريبة الزفتية والتجميل والصحية والرصيفية والملاكية.. وخصوصاً الملاكية فلقد امتلكتم منا كل شيء.. ولم تعد الأرصفة تسعنا.. فلا تدهسونا بمثل هذه القوانين والقرارات.. ونحن إذ نقول ذلك نعلمكم بأن أجرة ركن السيارات في حيازات خاصة منظمة ومبان مجهزة لا يتجاوز الوحدة النقدية للكثير من البلدان ففي الإمارات أجرة الساعة درهم واحد, وفي السعودية ريال واحد وفي مصر جنيه واحد وفي الكويت واحد من عشرة من الدينار وهكذا حتى نصل إلى الصومال.