تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الـــوعـي الــعربي بــين معــــالم التـــأثيــر وعـــوامـــل الـــحصار

شؤون سياسية
الأربعاء 24-6-2009م
د. أحمد الحاج علي

الأحداث قائمة وإن جاءت أحياناً ذابلة الإشعاع، أو كانت مغلفة برقائق من الادعاءات المضللة والكاذبة، ويبدو أن ثمة مفارقات مؤلمة نتجت عن مجمل العلاقة ما بين العرب والأحداث القائمة فيهم وعليهم،

وأول صيغ هذه المفارقات هو أن المواقف العربية تبدو عابرة على قاعدة الأحداث، في حين تبدو الأحداث ذاتها مطبقة ومتغلغلة في الواقع العربي وهكذا يتكون مناخ سلبي في الحياة العربية ويتبعه مزاج سياسي غير متكامل، هو مزاج موقوف على مظهر الحدث وموقوت بزمن الدفقة الأولى من الحدث نفسه، الأمر الذي يؤدي باستمرار إلى نتيجتين خطيرتين في الحياة السياسية العربية.‏

أما الأولى فهي تشكيل قناعة لدى القوى الأجنبية بأن السياسات العربية قد ترفض وقد تحتج ولكنها سرعان ما تنطفئ وتجد الخيارات الأجنبية طريقها بكثير من السهولة نحو الواقع العربي بكامله، لاقيمة في ذلك للصراخ أو التشنج أو الاحتجاج، فتلك مظاهر لا تخرج عن كونها مؤشرات خافتة سرعان ما تستنفد أغراضها وسرعان ما يدمن الواقع العربي سياسياً على القبول بما يصدر للعرب وبما يصنع لهم من خارج الحدود، حتى لكأن القوى الأجنبية صارت هي ذاتها تطلب مظاهر الاحتجاج العابر عند العرب على قرارات هذه القوى وسلوكها، لأن ذلك يعني بالمقام الأول إطلاق سمعة ديمقراطية لاقيمة لها ولأن ذلك يعني إجهاض هذه الصرخات العربية بحيث لا يتشكل موقف له أبعاد وله تأثيرات حيوية في رفض ما يراد للعرب من قبل الآخرين، لعل بعضاً من رموز القوى الأجنبية بمن فيهم قادة الكيان الإسرائيلي أطلقوا صفة (الصوت الجغرافي) على المواقف العربية المتناثرة والمتباعدة والتي يتساوى فيها حضورها الشكلاني المشترك مع تقاطرها عبر موجات قصيرة متقطعة، المهم دائماً كما هو مستقر عند الآخرين أن لاخوف ولاحزن من المواقف العربية السياسية وأن الصدى في هذه المواقف يتحول إلى رجع الصدى ثم تتكفل المتاهات العربية وأنماط السلوك المجوف لديهم بإطفاء آخر الترددات التي حملها الصوت الجغرافي للعرب، أما النتيجة الثانية فهي أن العرب سواء بمن يحكمهم أو بمن يحكمونه يعيشون اللحظة الخطرة بمواصفات صارخة سريعة الانطفاء، وسرعان ما تتحول الأحداث والمآسي القائمة فيهم ولهم إلى كلام مكتوب في الصفحات الرطبة التي تركن عادة في المستودعات المغلقة وتجبر عادة على أن تتوضع في المنطقة الخلفية من الذهن العربي العام، وهذه النتيجة ليست تهمة بحد ذاتها، فالإحساس بالخطر موجود ونوايا الرد على الخطر موجودة بكثافة أيضاً لكن المشكلة تقع في الكيفية التي يتفاعل العرب فيها مع الأحداث والتطورات الكبرى، حيث تبدو المحصلات العامة رخوة متكررة وذات شجون ولكنها لا تنتج مواقف وآثاراً يمكن اعتمادها في وعي الواقع ومواجهة التحديات ونحن نعلم في إطار هذه المسألة أن الوعي العربي متفوق وحيوي لكن هناك على الدوام من يتربص بهذا الوعي ويلقي القبض عليه ثم يدجنه وبعد ذلك يعلبه بأمبلاجات صارخة المظهر مفرغة الجوهر، وعند هذا المستوى لابد من طرح بعض النقاط المنهجية للتدليل على أن الأزمة الكبرى تقع في منطقة الوعي العربي والبيئة المحيطة بهذا الوعي وطريقة التعامل التي يستخدمها النظام السياسي مع هذا الوعي وبصورة عامة نلتقط بعض الصفات والمواصفات في هذا السياق.‏

1- المواقف موجودة ولكنها محدودة بمعنى أن المسارب والقنوات المفصلة من الداخل والخارج لاستيعاب هذه المواقف جاهزة لعملية الابتلاع والبلعمة وزج مظاهر الوعي والانفعالات في مسارب محنطة وتحت المراقبة مباشرة، والموقف السياسي حينما يكون تاريخياً وشعبياً وعادلاً يتمرد على عوامل الكسر والتجميد ويتحول بإيقاع منتظم إلى نهر متدفق ينمو ويتسع ويتعمق لينتج في المآل آثاراً حيوية ومهمة هي التي تصلح للرد على التحديات وهي التي تنجز مقادير التغيير المطلوب في الواقع العربي نفسه، ولهذا السبب نرى أن المواقف مطلوبة شكلاً ومرفوضة مضموناً الأمر الذي يحول كل صرخة عربية أصيلة إلى ذكرى جميلة أو إلى قصيدة أو إلى موال مبحوح ومجروح يحكي قصة الألم لكنه يكتفي بالندب وذرف الدموع على كل ما يحدث.‏

2- تشكلت مع وقائع الجمر والمرارة في الحياة العربية أسلوبية التعاطي مع الحدث بصيغته المباشرة والظاهرة والقريبة، ولكن الامتدادات ووسائط التحصين والتوظيف لهذه المواقف غير قائمة بل هي غير واردة أصلاً، حتى لكأن السياسات العربية وأثارها في المستوى الشعبي قد اقتبست من الريح صفاتها، تعلو، تهبط، تتوهج ثم تبرد، تميل مع حقائق اللحظة يميناً ويساراً ثم لا يلبث كل شيء أن ينكفئ إلى حالته الأولى حتى كأن شيئاً لم يحدث، ولذلك نرى أن المواقف التاريخية والسياسية عند العرب غزيرة وكثيرة ولكنها مركونة بتراتب زمني وبشري بارد وساكن وكل شيء يصير في النهاية مادة مؤرشفة يختلف عليها النقاد وراصدو التاريخ وكتاب وحي الواقع كما هو بطريقة الجمع ما بين الطقوس الحارة والندب المتكرر دون كلل.‏

3- ثمة صفة ثالثة بمواصفات ثالثة مازالت تعطينا المؤشر على الكيفية التي تبرهن كل مرة أننا كعرب على عكس الأحداث فنحن عابرون على الأحداث بينما تأتي الأحداث لتستقر فينا وتتخذ لها مواقع ومساكن في الداخل العربي وتوظف لخدمة منطقها أجندات ومجموعات تنقل الحدث من حرارته إلى تبريده ومن تبريده إلى تجميده إلى الكهف الأخير حيث الأراشيف الرطبة والذكريات التي عفى عليها الزمن، وبهذا المعنى فقد فرضت هذه الآلية نمطا على السياسات العربية وفتحت الفرصة أمام الآخر القوي لكي يفصل لنا المخارج من مأزقنا، ولكي يعطينا هو ولسنا نحن الدور المطلوب والأداء اللازم في هذه القضية العربية أو تلك وفي الناتج العام يمتلك العرب خاصية التفكر بقضاياتهم وساحاتها أما الآخرون الأقوياء فهم من يرسم الإطار ويثبت المضامين ولا ينسى أن يطلب إلينا أن ننتظر الخير القادم والحل السحري لقد صارت ذاتنا مستودعاً مفاتيحه عند الآخرين ولولا بقية من إيمان شعبي وذاكرة تاريخية حية لقلنا إن كل ما نعيشه هو بإرادة الأجنبي وبالمواصفات التي يريدها هذا الأجنبي.‏

بالأمس البعيد صدقنا أن الولايات المتحدة الأميركية هي التي ردعت العدوان الثلاثي على مصر، وفي موعد آخر في العام 1967 صدقنا فصلاً آخر من الحكاية الأميركية حينما اقتنعنا عبر الوعود الأميركية بأن العدو الصهيوني لن يشن الحرب على خمس دول عربية هي مصر وسورية ولبنان والأردن وفلسطين، كانت الطائرات الإسرائيلية تدكنا جميعاً في ذلك الموعد ونحن مستسلمون للخدر الأميركي وللوعد الذي يطلقه من لا وعد له في الأصل، واستمرت الحكاية حينما سلمنا مقاليد أمورنا للغرباء بحجة أنهم سوف يحملون السلام والحقوق لنا واكتشفنا على نحو غادر ومفاجئ أن هؤلاء الغرباء كانوا يدمرون العراق ومعه يدمرون أية بقية في الذهن العربي من شأنها أن تقاوم أو أن تصحوا أو أن ترفض الموت القادم من الغرب على الأقل، والتيار جارف والسيالة تطلق سماتها وإن اختلفت الصورة وإن تغير الأسلوب عند الغرباء، آخر الحكايات في هذا المسلسل مازلنا نعيشها من خلال ما أطلقه الرئيس الأميركي الجديد باراك حسين أوباما، انجذب الكثيرون منا إلى الضوء المصنع وكدنا أن نحترق كالفراشات وهي تلقي بأجنحتها على النار الخادعة في لحظة صعبة كانت السياسة الأميركية بنسختها الجديدة تؤمن للكيان الصهيوني مساحة أخرى من التمدد والاستكبار وتدمير القرارات الدولية وقتل الأبرياء في فلسطين بدم بارد، إنه المسلسل التاريخي الذي اعتمد على فاصلتين، واحدة منهما تخدر وتزور وتدجن الوعي العربي والثانية تتمادى في العدوان ونهب الثروة وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، إنها آلية تحتاج قبل أي شيء آخر إلى الاعتراف بحجم المأساة في ذاتنا قبل مطاردة المأساة في الزواريب والطرق الخلفية التي تبدأ من واشنطن وتنتهي بتل أبيب.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية